إعلام “عربي” …؟!أم إعلام “شرق أوسطي” ناطق بالعربية …؟!!

على بساط الثلاثاء
79
يكتبها :حبيب عيسى

إعلام “عربي” …؟!
أم إعلام “شرق أوسطي” ناطق بالعربية …؟!!

( 1 )
كان الإنسان عبر تطوره التاريخي ، يطوّر أدواته في شتى المجالات ، وربما كان أول ما شغل تفكيره ، وهو يبحث لإشباع حاجاته ، كيف يستعلم عن الواقع الموضوعي المحيط ، وكيف يُعلم عن وجوده ، وكيف يتعامل مع مكونات الواقع ، أين مكامن الخطر …؟ ، أين مكامن القوة ، والضعف …؟ ، أين يجب أن يهاجم …؟ ، وأين يدافع … ؟ ، وأين عليه أن يهرب ، و يتخفىّ …؟ ، وهذا كله يتوقف على معرفة ، كيف يستعلم عن الآخر …؟ ، وكيف يُعلم عن ذاته …؟ .
هكذا ، فإن الإنسان الفرد ، ومن ثم الجماعات البشرية ، مهما تنوعّت الأسباب التاريخية التي شكلتهّا ، لم تكفّ لحظة واحدة عن تطوير وسائل الاستعلام ، ووسائل الأعلام ، حتى أن تلك الوسائل باتت من أشد الأسلحة فتكاً في الحروب المشتعلة ، وفي الحروب الباردة ، وفي الحروب الخفية ، ونحن ، هنا ، لسنا في مجال التأريخ ، لتطور وسائل الإعلام ، وإنما ، فقط ، نعالج جزئية تتعلق بهوية الإعلام ، فالإعلام المطبوع ، والمسموع ، والمرئي ، والعنكبوتي ، وما سيستجد ، يعبّر عن جماعات بشرية لها كيانات اعتبارية يمكن نسبته إليها ، دول ، أحزاب ، أيديولوجيات ، أمم ، أديان ، طوائف ، مذاهب ، يسار ، يمين ، إثنيات ، شعوب ، قبائل ، سلطات …
( 2 )
غير أن واقع الإعلام في الوطن العربي ملتبس هذه الأيام ، ذلك أنه من الناحية الشكلية يحمل أسم “الأعلام العربي” ، وينطق ، أو ُيكتب بالعربية ، لكنه من الناحية الموضوعية ، لا ينطق باسم الأمة العربية ، والمشكلة هنا ليست في الإعلام ، وإنما في الأمة العربية ، ذلك أن الإعلام يعبّر عن مؤسسات اعتبارية ، والأمة العربية تفتقد هذه الأيام مؤسساتها الاعتبارية على كافة الأصعدة الثقافية ، والفكرية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، تفتقد مؤسسات دولة الأمة ، ونظامها العام ، وجنسيتها ، الأمة العربية تفتقد حتى المقدرة على إشهار هويتها ، فنحن “شرق أوسطيون” ، قدامى ، وتحت التحديث ، ونحن قبائل ، وإثنيات ، وأقاليم ، ودول ، وإقطاعات عائلية ، وأديان ، وطوائف ، ومذاهب ، وبعضنا مازال يعيش في أزمنة السومريين ، والفينيقيين ، والفراعنة ، والحميرّيين ، وبعضنا الآخر مازال يشحذ خناجر الثأر لفتن ما قبل الألفية الميلادية الثانية ، والبعض الثالث ُيشهر في وجوه أبناء الأمة العربية هويات الدول الإقليمية المصّنعة حديثاً ، والبعض الرابع يلتحق بفاتيكان روما ، أو بكنائس موسكو ، بحوزات قم ، أو بمساجد اسطنبول ، وكأن الكعبة ليست في مكة ، وكأن كنيسة القيامة ليست في فلسطين ، وبالتالي من المنطقي أن يكون الإعلام في الوطن العربي ناطق باسم تلك الجماعات المنوه عنها ، ومن الطبيعي أن يحمل هوياتها ، وهذا تعبير موضوعي عن واقع المحنة التي تمر بها الأمة العربية ، فتلك الجماعات لها مؤسساتها الاعتبارية ، ولها رموزها ، ومؤسساتها ، وجيوشها ، وتنظيماتها ، وميليشياتها ، و بالتالي من الطبيعي أن يكون لها إعلامها …
وحتى نضع الأمور في نصابها لابد من توضيح مسالة هامة ، ففي المجتمعات البشرية كافة يوجد هذا التنوع ، وتلك التعددية ، لكن في إطار المجتمع ، وتحت سقف النظام العام ، وفي ظلال عقود دستورية ، واجتماعية ، وسياسية ، واقتصادية ، تحتضن تلك الانتماءات ، وترتقي بتلك الانتماءات ، إلى مرحلة المواطنة ، حيث المساواة هي القاعدة ، وانتهاكها هو الاستثناء ، وحيث لا تطغى تلك الانتماءات على الانتماء للأمة ، والوطن ، وإنما يتم التعبير عنها تحت سقف ذلك الانتماء الجامع للجميع في ما يعرف بالوطن ، والشعب ، والسلطة التي لا يحتكرها أحد ، ولا يطغى عليها فريق ، ويتم تداولها وفق إرادة وطنية لا تحتكرها فئة معينة ، وبالتالي فإن الإعلام يحمل هوية الوطن ، والجماعة بكليتها سواء كان يمينياً ، أو يسارياً ، دينياً ، أو علمانياً …
( 3 )
المشكلة في الوطن العربي كانت ، وما تزال ، غياب المؤسسات الاعتبارية التي تحمل هوية الأمة العربية ، ومما زاد في الطين بلة ، أن مؤسسات دول الأمر الواقع في الوطن العربي لم ترتق إلى مستوى المؤسسات الاعتبارية للدول حتى في الإطار الإقليمي الضيق ، فتحولت إلى فريسة للفساد ، تمارس تهديد وحدة النسيج الاجتماعي ، وينتج عنها إعلام يبرر الفساد ….
هذا كله أدى إلى اصطفاف إعلامي غابت عنه الشفافية ، والموضوعية ، وباتت كل وسيلة إعلامية هوية بحد ذاتها في مواجهة الآخرين ، لها رموزها ، الذين ما أن تراهم ، أو تقرأ أسمائهم حتى تعرف ما سيقولون ، أو يكتبون عبر مواقف معلبّة لا تحيد عن التمجيد ، والتبرير من جهة ، ولا تحيد عن القذف ، والشتائم بالآخر من جهة أخرى ، ولا مكان على الإطلاق للرأي الموضوعي ، أو لأي موقف لا يخدم أصحاب المؤسسة الإعلامية ، ومن يقف ورآها ، فغاب الحوار ، والرأي ، وحل “الزعيق” ، وانتفى بذلك الظرف الموضوعي الملائم ، ليمارس المجتمع العربي “الجدل الاجتماعي” ، يضاف إلى ذلك ، أن النشاط الإعلامي بات مكلفاً من الناحية المادية ، ويخضع للسوق التجاري ، بمعنى أن أية مؤسسة إعلامية باتت تتطلبّ ، أن يقف وراءها رأس مال خاص ، أو سلطات ، وهذا أدى إلى أن تكون مؤسسات ممسوكة بقوة ، والتمرد يعني الإفلاس ، والإغلاق من جهة ، وإلى انعدام إمكانية قيام مؤسسات إعلامية تخدم مشروع ثقافي ، أو فكري ، أو مشروع نضالي نهضوي ، لعدم توفر الإمكانيات المادية الفردية ، ولأن الاستبداد المديد التهم مؤسسات المناعة الاجتماعية ، والثقافية ، والاجتماعية ، وبشكل خاص المؤسسات السياسية ، حيث تحولت الأحزاب ، والحركات السياسية إلى شلل مشخصنة فاقدة للفاعلية ، وللإمكانيات ، وللبرامج ، في وقت واحد ، أما ثالثة الأسافي فهي السلطات الحاكمة في الوطن العربي ، التي تمسك بخناق الشعب العربي ، وتكبّله بما لا يحصى من الأجهزة القمعية ، والأنظمة ، والقوانين المكبلة للحريات ، والتي تفرض وحدانية الرأي ، وبالتالي تمنع بالقوة إذا اقتضى الأمر قيام أية مؤسسة إعلامية لا ترتبط بالسلطات ، أو برأس المال السلطوي الذي نتج عن نهب المال العام ، والذي ترعاه السلطات …
ويبقى السؤال المشروع : هل هذا الواقع الإعلامي جديد في الوطن العربي …؟ .
ثم ، متى كان للأمة العربية مؤسساتها المشروعة التي تحمل هويتها سواء في الإعلام ، أو في المجالات الأخرى ؟ .
( 4 )
في محاولة لمقاربة الجواب ، سنقصر حديثنا على الأحداث منذ بداية القرن العشرين ، وحتى الآن حيث يمكن التوقف في المحطات الإعلامية التالية :
أولاً : بداية القرن العشرين ، حيث الوطن العربي يرزح تحت الاحتلال العثماني من جهة ، وفي قبضة الاستعمار الأوربي من جهة أخرى ، تتم المقاومة العربية على مستويات متعددة ، منها مشروع تحرر قومي عربي استقلالي ، تم التعبير عنه بجمعيات قومية عربية ، ورموز قومية ، ومقاومات مسلحة ، ونشاط فكري ، وعقائدي ، وثقافي أنتج العديد من الصحف ، والمجلات ، والمجلدات الفكرية ، وكانت تلك حدود النشاط الإعلامي في بداية القرن العشرين .
ثانياً : الوطن العربي ، ُبعيد الحرب العالمية الأولى ، يخضع للاستعمار الأوربي ، ولمشاريعه التقسيمية ، وزرع المستوطنات الصهيونية في فلسطين ، فتتصاعد المقاومات العربية على مستويات متعددة أيضاً ، منها مشروع التحرر القومي العربي الذي حاول الربط بين التحرر من الاستعمار ، بالتحرر من التجزئة ، وتحقيق الوحدة العربية ، وقد تبلور ذلك بولادة أحزاب ، وحركات سياسية ترفع شعارات تنادي بالوحدة العربية ، وتربط ذلك ، بالتحرر من الاستعمار ، وبالعدالة الاجتماعية ، على اختلاف بالترتيب ، وقد تم التعبير عن ذلك ، بإعلام على مستويات مختلفة منها صحف ، ومجلات قومية عربية ، وقد دخل على خط الإعلام في تلك المرحلة الإعلام الإذاعي الناطق بالعربية لكنه كان محصوراً بالإذاعات الرسمية التي تنطق باسم السلطات الإقليمية قيد التشكل ، وباسم الاستعمار الأوربي على وجه التحديد .
ثالثاً : الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية ، حيث التنفيذ العملي لاتفاقية “سايكس – بيكو” في المشرق العربي ، وكذلك تقسيم الجزء العربي في شمال إفريقيا إلى سلطات تحّولت إلى دول واقعية ، إضافة إلى تنفيذ وعد بلفور ، بإقامة المستوطنات الصهيونية في فلسطين ، وإدخال تلك المنظومة في النظام العالمي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية ، وإطلاق مصطلح دول الشرق الأوسط كبديل عن الوطن العربي ، والأمة العربية ، والدولة العربية ، والبدء بالتسليم ، والاستلام بين الجيوش الاستعمارية ، وبين سلطات التجزئة التي أطلق عليها فيما بعد “الدول العربية” التي تم جمعها في “جامعة الدول العربية” كي تعترف كل “دولة” باستقلال الدول الأخرى” في الوطن العربي ، وهذا يحقق هدفين في وقت واحد . الأول : أن أي وحدة بين دولتين عربيتين هو اعتداء على الشرعية الدولية ، والثاني : أن الدعوة لإقامة دولة عربية واحدة هو اعتداء على دول مشروعة معترف بها من قبل الشرعية الدولية ، وبالتالي على تلك “الدول” أن تقرّ بعدم تدخل كل دولة بشؤون الدول الأخرى ، فمن حق أوربا متعددة القوميات أن تتجه إلى الدولة القارية الواحدة ، وليس من حق العرب أن يتمتعوا بحق تقرير المصير بإقامة دولتهم القومية الواحدة ، هذا العدوان الصارخ على الوجود ، والمصير القومي العربي ، والذي شرعنه النظام الدولي ، الذي كان جديداً ، والذي ولد من رحم الحرب الأوربية الثانية ، أدى إلى ما يشبه الانتفاضة العربية الشاملة في مواجهة قوى الهيمنة الدولية ، وقوى الاستبداد الداخلي المرتبطة بها ، وتم التعبير عن ذلك بالمقاومات المسلحة حيث الاحتلال الاستعماري ، وبالعصيان المدني حيث السلطات التي فرضتها المشاريع المعادية للأمة ، ثم بالانقلابات العسكرية ، ثم بمحاولات انتزاع الحقوق العربية بالثورات الشعبية ، وبالتأميم ، وضرب مخططات التجزئة بإقامة الجمهورية العربية المتحدة ومحاولات وحدوية أخرى ، وقد تم التعبير إعلامياً عن تلك المرحلة بصحف ، ومجلات ، ومجلدات ، وإذاعات ، وبداية عصر التلفزيون ، لكن ما تميّز به الإعلام في تلك المرحلة هو تعبيره عن مرحلة النهوض القومي العربي نسبياً ، ونقول نسبياً لأن الإعلام كان أسير السياسات التكتيكية للقوى ، والأحزاب ، والحركات ، والسلطات ، التي كانت ترفع الشعارات القومية العربية ، سواء في صراعها بين بعضها ، البعض ، أو في صراعها مع القوى الأخرى ، فتارة يمجدّ ، وتارة يشتم ، ففقد مصداقيته ، وباتت الشعارات القومية العربية غطاء لسياسات لا قومية ، ولا عربية …
رابعاً : الوطن العربي منذ بداية انحسار المشروع القومي العربي التحرري النهضوي ، والذي مازال مستمراً حتى الآن ، وقد تميز الإعلام في هذه المرحلة بالتخلص حتى من العباءة القومية العربية ، والكشف صراحة عن الوجه الإقليمي ، والسلطوي ، والديني ، والطائفي ، والمذهبي ، وحتى العائلي ، وهذا ما يميّز إعلام هذه المرحلة عن المراحل السابقة ، صحيح أن ذلك كله كان موجوداً في المراحل السابقة ، لكن على استحياء ، وبوجود إعلام يحاول أن يتلمّس مشروع الأمة ، ويعبّر عنها ، ولو نسبياً ، الآن ، حتى هذا لم يعد موجوداً ، وبالتالي فنحن لسنا في حضرة إعلام عربي ، بأي معنى من المعاني ، وإنما نحن تحت قصف إعلامي “إسرائيلي” ناطق بالعربية ، وإعلام سلطوي شمولي ، وآخر طائفي ، مذهبي ، ولم تعد السلطات تكتفي بالإعلام الناطق باسمها ، بل باتت تستأجر إعلاميين تحت أسم الإعلام الخاص ، وبرؤوس أموال صهيونية ، ونفطية ، ومنهوبة …، إنه “الشرق الأوسط” الذي خططوا له بدقة ، حيث لا وجود فيه للأمة العربية ، وكل ماعدا ذلك له حق تقرير المصير المستقل ، وهيئة الأمم المتحدة التي لم تتسع لدولة الأمة العربية تحجز المزيد من المقاعد ، لمزيد من الدول في الوطن العربي الذي بات يحمل أسم “الشرق الأوسط” سواء كان قديماً ، أو جديداً …
( 5 )
الآن ، لعل أول ما يعترض طريق أولئك الذين يتصدّون لاستئناف مشروع النهوض ، والتحرير ، والتنوير القومي العربي التقدمي ، هذه الأيام ، امتلاك الأدوات ، لتحديد معاني الكلمات ، قبل اختيارها ، بعد أن فقدت الكلمة العربية بفعل عوامل عدة الكثير من معانيها الأصيلة ، وتمزقت حروفها تحت وطأة التزوير ، ومحاولة جعلها فضفاضة حتى فقدت كل معنى أصيل ، وتحولت إلى عدة معان متناقضة محصلتها لا تزيد عن الصفر ، يجترّها الكثيرون على صفحات الجرائد ، ومن وراء أجهزة الصوت ، والصورة ، لتفتقد في النهاية تأثيرها على المواطن العربي ، وتفتقد مصداقيتها ، وتتحول الشعارات التي كانت تلهب المشاعر العربية إلى كلمات باردة ، ميتة تهرب الأذن العربية من سماعها . وتنفر العين العربية من رؤيتها ، وهذا ما يحصل الآن .

( 6 )
إن المشكلة ليست في اللغة العربية . فاللغة في أية أمة ، من الأمم أداة للتعبير ، والتفاهم بين مجمل أولئك الذين ينطقون بها . هي أداة لتسجيل الأحداث التاريخية ، ورسم المشاعر الوطنية ، والتعبير عن الذات الإنسانية ، وهي قبل كل شيء آخر ، تساهم مساهمة فعالة في بناء المستقبل .. في صياغة الوعي … في توفير لغة التخاطب ، والحوار .. في تعميق الصلة بين أبناء الوطن ، وتحديد الأهداف ، وبالتالي فإن ارتباط الكلمة بحاجات الناس ، وقدرتها على التعبير عن واقعهم ، وتحديد أهدافهم بأصالة ، وجدية ، أو ابتعادها عن أحاسيسهم ، واهتماماتهم ، وأمانيهم … مسؤولية لا تتحملها الكلمة ، بطبيعتها ، وإنما يتحملها أولئك الذين يستخدمونها سلباً ، أو إيجاباً … أولئك الذين يكتبون ، أو يتكلمون … والوطن العربي الذي يمر بمرحلة عصيبة من التمزق ، والتخلف ، والاحتلال ، ينتظر الوسيلة الوحيدة الباقية التي يمكن أن تنقله خطوة على طريق التقدم ، ألا وهي انطلاقة عربية قومية تقدمية ، أصيلة ، تقطع مع أخطاء ، وخطايا الماضي ، وتمـتلك المقدرة على الحركة باتجاه أهداف الجماهير العربية في إقامة دولة العرب الوحدوية الاشتراكية . لذلك نجد أنه من الطبيعي أن يتحدد الهدف الرئيسي لكل أعداء الأمة العربية بمحاولة إجهاض مثل تلك الانطلاقة … وهم ، لتحقيق هذا الهدف لا يوفرون سلاحاً ، أياً كان … ومن ضمن أسلحتهم محاولة تزوير الهوية العربية ، بمنع قيام مؤسسات اعتبارية تنطق باسم الأمة العربية ، بتفجير المشروع النهضوي القومي العربي من داخله … بتزوير شعاراته … والتستر بمبادئه ذاتها إذا أمكن …، والواقع العربي القريب يحمل الكثير من الأمثلة التي تثبت ذلك ، فكم من هؤلاء الذين ظهروا على مسرح السياسة العربية بمظهر الثوريين ، والمتطرفين القوميين ، جداً … انكشفت أوراقهم ، وتبيّن أنهم ينفذون أجندات أخرى …
( 7 )
من هنا .. من هذا الواقع الذي سمح لأعداء الأمة العربية أن يتحدثوا باسمها … بدأت الكلمة السياسية العربية تستخدم في غير مواضعها ، وبدأ التزوير على أوسع نطاق .. وبدأ ذلك الانفصام الواضح بين الكلمة من جهة ، وبين قائلها ، أو كاتبها من جهة أخرى …
فأفرغت الكلمة العربية من كل مضمون .. واستخدمت لتلغي معناها الأصلي … وضاعت في غمرة هذه الأحداث تلك الأصوات القليلة التي قبضت على المباديء ، كالقابض على الجمر ، والتي حاولت أن تنقذ ما يمكن إنقاذه … فضاعت وسط الضجيج … والإرهاب الفكري … والتطرف “الثوري” العنيف المدعى به .. .، وتحول العقل العربي إلى مستودع لبعض المصطلحات التي ترتب ، بأشكال مختلفة حسب مزاج الكاتب ، أو الخطيب ..
كما نجحت اللعبة في بعض المواقع … وخرج أصحاب المشاريع المضادة للمشروع القومي العربي التقدمي من أوكارهم التي حشروا فيها نتيجة المد التحري العربي القومي ، وتراجعت قوى التحرر العربية إلى مراكز الدفاع ، وتوسعت القاعدة السرطانية الصهيونية ، وازداد عدد المشردين من أراضيهم تحت شعار التحرير ، وتمزقت الأرض العربية ، وظهرت دويلات إقليمية جديدة تحت شعار الوحدة … وازداد نهب الثروات العربية من قبل الشركات الاحتكارية ، وازداد الفقراء فقراً ، والمتسلطون تسلطاً ، تحت شعارات الاشتراكية ، والحرية … وازداد بعد هذا كله الرجعيون رجعية … ولكن هذه المرة تحت شعارات مستحدثة … !!
( 8 )
إن الذين يتصدون لاستئناف بناء الشروع العربي التقدمي ، مطالبون الآن ، أكثر من أي وقت مضى ، أن يحددوا مواقع أقدامهم .. ، ومواقفهم من كل ما يحيط بهم .. مطالبون قبل أي شيء آخر ، أن يعيدوا للذهن العربي صفاءه ، فالذين يحاولون تشويش الذهن العربي ، وتشويهه ، بمختلف الوسائل المتاحة – المحلية منها والمستوردة – لن يدخرّوا جهداً في الاستمرار ، بتنفيذ مخططهم الرهيب الذي يهدف إلى تحويل المشروع القومي العربي ، إلى غطاء لسلطات استبدادية ، وإلى حركات إقليمية تتخبط منعزلة عن الحركات الأخرى … مما يؤدي بالتالي إلى تشرذمها … ويؤدي بالشراذم إلى تشرذمات جديدة … وهكذا تتم عملية التوالد الدوري عن طريق الانقسام المستمر على طريقة علم ” توالد البكتيريات ” .. !! ، وتتحول الجماهير العربية إلى مجموعات من الشلل ، لا أول لها ، ولا آخر … ، شلل من المتصارعين على أشكال من الكلمات مختلفة … وعلى مواقع ، للانتهاز ، والانتفاع … ، وتنسى في غمرة كل هذا الخليط العجيب المشكلة الأساسية … !!
( 9 )
هذا هو المطلوب من أصحاب المشاريع المضادة ، مطلوب ، أن يملأ الإعلام “الشرق أوسطي” الفراغ الذي خلفهّ انحسار المشروع القومي العربي التقدمي ، حيث الجماهير العربية تنسى التجزئة العربية ، والثروات الضائعة ، والتخلف القائم ، والأرض المغتصبة ، والمقتطعة … وينجح المخطط المرسوم لهذا الوطن العربي ، فكل ما يطالبنا به أعداؤنا في هذه المرحلة ، هو أن ننسى … أو على الأقل ، أن نتجاهل الواقع العربي الراهن … ونعتبر كل ما جرى ، ويجري أمراً واقعاً لا مفر منه ، ولا بد من التسليم ، به … لذلك ليس غريباً أن نجد الآن على الأرض العربية من يعتبر الإقليمية أمراً واقعاً ، لا بد من التسليم به … ! بل إننا نجد من يفلسف الإقليمية عقائدياً ، ويعتبر الدعوة لدولة الوحدة الاشتراكية العربية الديمقراطية ، وهماً من صنع الخيال العربي … !! وليس غريباً أن نجد على الأرض العربية من يعتبر الاحتلال الذي تتعرض له أجزاء واسعة من الأراضي العربية واقعاً قائماً تدعمه قوى عالمية جبارة لا قبل لنا بالتصدي لها ، ولذلك فلا بد من التسليم بهذا الواقع ، والتعايش معه … !! وليس غريباً أيضاً أن نجد من يدعّي الاشتراكية دون الوحدة ، ومن يدعي الوحدة دون الاشتراكية … ! وينسى هؤلاء ، وأولئك أن طريق الوحدة ، هو ذاته طريق الاشتراكية .
( 10 )
لقد آن الأوان أن نحدّد مواقفنا من هذه المفاهيم ، وان نكشف دون مراوغة ، أو تردد ، أولئك الذين يتستروّن تحت أعلام ، ورايات ، ومبادىء هم ألد أعدائها … وعلينا ، بعد ذلك ، أن نفرز من الصفوف أولئك الذين يرفعون الشعارات المزورة التي تبدو من الخارج بالغة العنف ، والتطرف . ولكنها في حقيقتها تحمل كل أشكال الانهزام ، والاستسلام ضمن – موديل – حديث .
أريد أن أقول ، من كل ما تقدم ، أن الإعلام العربي هو التعبير الحي عن العلاقات السياسية ، والاجتماعية التي تحكم الواقع العربي … وبالتالي فإن أزمة هذا الإعلام هي استمرار طبيعي للأزمة التي يعيشها العرب في ذلك الواقع .. وبالتالي ، فإن المشكلة لا يمكن حلها داخل الإعلام ، وإنما يبدأ حلها ببناء مؤسسات عربية اعتبارية في شتى المجالات تطلق إعلاماً عربياً تقدمياً ، إنسانياً ، يحقق المصداقية ، فتصدقه الجماهير العربية ، وتبدأ مسيرة التغيير باتجاه حضارة عربية جديدة تكمل الإيجابي في تاريخها ، وتقطع مع السلب ، وتتبرأ منه ..
حبيب عيسى
E-mail:habib.issa@yahoo.com

أضف تعليق