على بساط الثلاثاء
93
يكتبها : حبيب عيسى

28 أيلول “سبتمبر” ..؟!

( 1 )
أعترف أنني في حيرة حقيقية هذا اليوم 28 أيلول “سبتمبر” ، لا أعرف من أين أبدأ في معالجة الأحداث التي حفرت أخاديدها عميقاً في حياتنا نحن العرب ، والتي ُسطرّت في سجل ذلك اليوم الحزين …
– قبل نصف قرن تقريباً ، وفي صبيحة يوم 28 أيلول “سبتمبر” 1961 استفاق العرب الذين كانوا ينامون ويستيقظون على حلم أن تمتد حدود دولة “الجمهورية العربية المتحدة” التي كانت تضم الإقليم الشمالي “سورية” ، والإقليم الجنوبي “مصر” لتشمل وطن العرب وأمة العرب بين المحيط والخليج ، استفاقوا على نعيق الغربان من راديو دمشق بفصل الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة ، فانكسر الحلم …
– بعد ذلك بسنوات تسع ، وفي عشية يوم 28 أيلول “سبتمبر” 1970 ، صُدم العرب من المحيط إلى الخليج بنعيق غراب آخر من الإقليم الجنوبي ، هذه المرة ، لقد غاب ، أو غُيب قائد معارك التحرر العربي جمال عبد الناصر ، فانكسر ما كان قد بقي من الحلم العربي ، بحيث يمكن التأريخ بذلك اليوم كبداية انحسار مشروع النهوض والتنوير والتحرير القومي العربي … وصعود خط الفتن ، والفرقة ، والمذهبية ، والإقليمية ، والتبعية للخارج …
– في ذلك اليوم ، أيضاً ، ودون أن ينعق الغراب بذلك علناً بدأ الإجهاز على الجمهورية العربية المتحدة التي كان جمال عبد الناصر قد أصّر على أن تبقى مجسدّة علماً ونشيداً واسماً في “الإقليم الجنوبي” ، وأهم من ذلك الإبقاء عليها كصرح ، كقاعدة ، كموقف ، بأن الانفصال الذي حدث في الإقليم الشمالي مؤقت ، وأن المسيرة العربية إلى الجمهورية العربية المتحدة الشاملة وطن وشعب الأمة العربية لن تتوقف ، وبالتالي فإن 28 أيلول “سبتمبر” بذلك لم يعد يوم انفصال الإقليم الشمالي ، وحسب ، وإنما بتغييب جمال عبد الناصر أضيف إليه ، انفصال جديد ، أنه يوم انفصال الإقليم الجنوبي عن الجمهورية العربية المتحدة …
– في ذلك اليوم ، أيضاً تم الإجهاز على المقاومة العربية في عمّان ، بعد أن غاب جمال عبد الناصر الذي كان يلملم جراحها وخطاياها ، ومن ثم تم حصارها نهائياً وإبعادها عن نهر الأردن منفذها إلى قلب فلسطين ، وبالتالي تم دفعها إلى الأقلمة لتكون ضمن مشروع النظام الإقليمي ، فتدخل بورصة الصفقات والمساومات …
هكذا ، فإننا نشأنا على الخوف عندما يقترب هذا اليوم 28 أيلول “سبتمبر” ، ليس من ذكرى ما حدث فيه ، وإنما تحسباً مما يمكن أن يحدث فيه ، لهذا ، فإنني في مثل هذا اليوم ألجأ إلى ركن آمن يتيح إليّ شيئاً من الطمأنينة ، والبحث في إمكانية الانتقال من البكاء على الأطلال إلى مرحلة التأسيس لانطلاقة عربية جديدة باتجاه مصير عربي مختلف ، نضعها بتصرف الجيل العربي الجديد من الطليعيين العرب الجدد …
( 2 )
ولهذا ، فإنني أرى أن السبيل الوحيد للانعتاق من أحزان 28 أيلول “سبتمبر” ، وتداعياته ، يكمن في البحث عن مخرج من المحنة العربية الراهنة إلى أفق عربي جديد ، تلك المحنة التي آن لها أن تمضي ، لكنها ، وبعد التجارب المرة ، بات من الثابت أنها لن تمضي إلا بنضال دؤوب ، ممنهج ، جاد كامل الأوصاف ، وبما أننا كجيل بتنا على عتبات المغادرة ، فإن مسئولية ذلك تقع على عاتق الجيل العربي الجديد من الطليعيين العرب ، وأقصى ما يمكن أن يقدمه جيلنا إليهم يتمثل بعدم زجهم في صراعاتنا العبثية من جهة ، وبتقديم خلاصة تجاربنا المرة إليهم ، من جهة أخرى … لهذا فإن حديثي موجه إليهم حصراً ، في هذا اليوم ، فهم ملجأي الأخير ، وسأترك البكائيات لغيري ، وسأبدأ من الواقع كما هو ، ثم إلى : المنطلقات ، والغايات ، وذلك عبر محاور ثلاثة …
– حال الأمة العربية . – المنطلقات . – الغايات الاستراتيجية .
( 3 )
– المحور الأول : حال الأمة العربية …
1- على صعيد المشهد الدولي : تطور مفهوم الحلف المقدس في أوربا إلى الحلف الأوروبي الاستعماري في أواخر القرن التاسع عشر ثم تطور إلى عصبة الأمم في الربع الأول من القرن العشرين ، ثم إلى هيئة الأمم المتحدة في منتصف القرن العشرين ، ثم إلى النظام الثنائي القطب ، ثم إلى القطب الأمريكي الوحيد… لقد تأسس هذا النظام الذي يسمونه (النظام الدولي) على مبدأ تنظيم سيطرة الأوروبيين على العالم والانتقال بالأوروبيين من الصراع على موارد أوروبا وأمريكا الشمالية- التي أباد الأوروبيون أهلها الأصليين- إلى مرحلة الصراع على موارد العالم، وكان هذا كله تتويجاً للقرون الخمسة الأخيرة من الألفية الثانية حيث جاب قراصنة أوروبا العالم ، وصاغوا من أعراف القراصنة ما أسموه “القانون الدولي “، وأنشأوا هيئات أسموها دولية، وهي في حقيقة الأمر هيئات تنظم عمليات نهب العالم والسيطرة عليه.
لقد كان نصيب الوطن العربي من هذا كله وصايةً و انتداباً وحماية واستعماراً وقواعد واحتلالاً ، ومن ثم عدواناً مستمراً حتى الآن على الوطن العربي، حيث تخضع الثروات العربية المادية والبشرية للنهب المستمر والمزدوج لصالح قوى الهيمنة الدولية ، ولصالح قوى الهيمنة المحلية.
2- على صعيد قوى الهيمنة المحلية: لقد احتاجت قوى الهيمنة الدولية إلى النصف الأول من القرن العشرين لتثبت حدود تفتيت وطن الأمة وشعبها وإنشاء دولة الصهاينة. واحتاج النظام الإقليمي الذي أقامته قوى الهيمنة أيضاً إلى النصف الثاني من القرن العشرين لبناء مؤسسات هشة يراد لها أخيراً تدشين الشراكة بين النظام الإقليمي ودولة الصهاينة تحت الرعاية الإمريكية.
3- على صعيد البنى السياسية للأمة: إن البنى السياسية للأمة تفتتت تحت ضربات النظام الدولي خلال القرن المنصرم ، وشهدت السنوات الأخيرة من القرن العشرين بخاصة مجتمعاً عربياً تفككت قواه السياسية الحية وغدا عارياً أعزل من قوى المقاومة والدفاع.
4- على صعيد الحركات القومية : لقد أصاب الحركات القومية ما أصاب البنى السياسية عموماً، ونتيجة ضعف البنى الفكرية لتلك الحركات، ونتيجة ضعف بناها التنظيمية، فإن الحركات (والأحزاب) تاهت على الطريق إلى الوحدة العربية أحياناً أو تحولت إلى قوى تستخدمها دول النظام الإقليمي أحياناً أخرى، وذلك بسبب الخطأ الفادح الذي وقعت فيه عندما لم تدرك مغزى النظام الإقليمي في الوطن العربي، فتصور البعض أن مجرد السيطرة على الدولة الإقليمية يكفي لإضفاء صفة القومية عليها، وتصور البعض الآخر أن أجهزة الدولة الإقليمية قادرة بالتوجيه القومي على تحقيق الأهداف القومية، واكتشف هؤلاء وأولئك بعد فوات الأوان أن الدولة الإقليمية ابتلعتهم وابتلعت أحلامهم واستخدمتهم في مشاريعها التفتيتية عوضاً من أن يستخدموها في مشاريعهم القومية.
إن الأحزاب والمؤسسات القومية التي بدأت إرهاصاتها مع بداية القرن العشرين، واكتملت تنظيماتها مع منتصفه، واعتلت سلطات النظام الإقليمي في بعض المواقع، اندثرت مع نهاية القرن ولم يبق منها إلا الأشلاء.. لكنها تركت تراثاً خصيباً وتجربة فذة لا بد من الانكباب على دراستها بعناية فائقة لتجنيب الأجيال العربية القادمة الأخطاء والانحرافات.
5- على صعيد البنى الفكرية : لقد تحولت الساحة العربية خلال القرن العشرين إلى (حقل تجارب) للأفكار والأيديولوجيات التي أنتجتها البشرية، ولا نكاد نعثر على نظرية أو منهج سواء من الماضي السحيق وحتى الحاضر المر إلا تشكلت حكومات هنا وهناك على طول الأرض العربية وعرضها تتلمس الخلاص على هديها.
( 4 )
صحيح أن هذه الأرض العربية فيها الكثير من التغريب والتخريب، لكن بفعل عمق الصراع على هذه الأرض العربية ، فإن تجربة بالغة الثراء قد حدثت، وجاءت أحداث القرن لتضع حداً لكثير من الصراعات الفكرية، وتفتح ساحات أخرى للحوار والصراع وترشح هذه الأمة مرة أخرى لتنتج رسالة خلاص معاصرة للبشرية.
وإذا كانت هذه الأمة تعتصم هذه الأيام بسجيتها لدفع موجات التخريب والتغريب… فإن هذا في الوقت ذاته تعبير حي عن استعداد لاستقبال رسالة التغيير بعد قرن من التفتيش في العصور المنصرمة، وبعد قرن من التدقيق في الترجمات الكثيفة لكل ما أنتجته البشرية. فالأمة تدرك والأعداء يدركون أيضاً، أن التغيير هنا في وطن العرب عندما تدق ساعته فإن قوة هذه الأرض لن تمنع صداه من أن يتردد في مغارب الأرض ومشارقها.
( 5 )
المحور الثاني: المنطلقات ..
1- على صعيد المشهد الدولي : إن البشرية وبعد التطور الذي شهدته في مجالات الفلسفة والعلوم والآداب والثقافة تستحق نظاماً دولياً متوازناً وعادلاً يتناسب مع التطور الذي بلغته الإنسانية. ومن غير المعقول ولا المقبول أن يستمر نظام القرصنة الأمريكي الذي يحكم عالم اليوم .
إنه نظام تدمير الكون وتلويث الكوكب واستعباد البشر وتقسيم العالم إلى عوالم عليا وسفلى أو جنوب وشمال.
والأمة العربية هي من أكثر أمم وشعوب العالم تضرراً من مثل هذا النظام، وبالتالي فإن حركة التحرر العربي أولى بأن تكون فى طليعة القوى الإنسانية الناهضة لتحرير العالم من براثن هذا النظام.
فالعالم في ظل التطور الحضاري المنشود ليس عالماً من السادة والعبيد، وإنما عالم واحد يقوم على المساواة بين الشعوب، وإن الشعوب بما فيها الأمة العربية الموحدة الفاعلة هي المرشحة لبناء هذا النظام الدولي العادل.
2- على صعيد الأمة: نحن ننطلق من حقيقة أن الأمة العربية قد اكتملت تكويناً منذ أن تمكن المجاهدون العرب بقيادة الصحابة والتابعين من هزيمة أقطاب النظام الدولي الفاسد الذي كان سائداً في ذلك الوقت، فحرروا الأرض العربية من العدوان الأجنبي وتم التفاعل بين الشعوب والقبائل والعشائر التي تسكن هذه الأرض فتوحدت ثقافة وأهدافاً ، وبالتالى فإن أي عدوان على الأمة العربية بالتقسيم أو بالاحتلال هو عدوان يجب أن يدفع بالطرق المناسبة.
( 6 )
3- على صعيد إعادة بناء القوى السياسية: إن القوى السياسية التي دمرها النظام الإقليمي في الوطن العربي أو تلك التي وهنت لأسباب تتعلق ببنيتها الفكرية والتنظيمية لم تعد صالحة بعد كل هذه التطورات التي شملت العالم وتجاوزت بناها الفكرية والتنظيمية.
إننا ندعو القوى والأحزاب السياسية كافة أو ما تبقى منها إلى المراجعة الشاملة لأفكارها وأساليبها، وأن تستجيب لحاجة إعادة بناء هيكلية وتنظيمية وفكرية تنسجم مع الحقائق التي أفرزتها التجربة المرة للقرن العشرين، وأهم هذه الحقائق الاعتراف بالوجود القومي للأمة العربية ولو كانت هذه القوى والأحزاب غير قومية من الناحية العقائدية .
فانطلاق هذه القوى من الوجود القومي للأمة، واعتبار ساحة الأمة هي ساحة عملها معيار لمدى تخلصها من الانخراط في مشاريع التفتيت والتقسيم .
فلتتعدد المنابر والآراء والقوى، وليعلن كل فريق ماذا يريد للأمة العربية وليفتح باب الجدل الاجتماعي واسعاً، وليحتكم الجميع في النهاية لإرادة الأمة، وليلتزم الجميع بعقد اجتماعي مؤداه أن تحقيق ما يريده كل فريق للأمة العربية مرهون بمقدرة القوى الحية وتحالفها في معركة تحرير الأمة من العدوان المتعدد الأشكال والجنسيات، ثم وبعد التحرير والتوحيد ليدع كل فريق إلى برنامجه وعلى ماذا يتفق أو يختلف مع الآخرين .
4- على صعيد بناء التنظيم القومي : لقد استنفد القوميون العرب خلال القرن العشرين مراحل التجريب لبناء التنظيم القومي . وتأكد للجميع أن الفشل الذي أصاب هذه التجارب لم يتأت من كون هذه التجارب قومية، ولكن من كونها لم تكن قومية كما يجب .
الدروس على أية حال حية، والنتائج قاطعة، و”الطليعة العربية” حاجة وضرورة… كيف نبنيها ومتى…؟ هذا هو السؤال…
5- على صعيد التحالفات: إن الطليعة العربية كتنظيم قومي للأمة مطالبة بأن تكون العصب والعمود الفقري لتحالف عريض يضم كل القوى الحية في الأمة التي ترفض واقع التبعية والتفتيت أياً كانت الأفكار التي تدعو إليها، ذلك أن معركة تحرير الأمة مفتوحة، وكل عربي له مكانه وموقعه الذي ينتظره في خندق المعركة، ولكل عربي بعد ذلك حق الاختلاف على أي شيء.
( 7 )
المحور الثالث: الغايات الاستراتيجية
1- على صعيد المشهد الدولي : إن مفهومنا للحركة القومية يقوم على منهج إنساني يرى أن الإنسان.. وبالتالي المجتمعات البشرية في تطور مستمر لا يتوقف ، وأن البشر عندما يستنفدون مرحلة ينتقلون إلى أخرى . والأمة العربية عندما تحقق وحدتها ستسهم إسهاماً فعالاً في بناء نظام دولي متوازن عادل.
( 8 )
2- على صعيد الأمة : إن الحركة القومية العربية تستهدف تحرير الأرض العربية، كل الأرض العربية، وتوحيدها، ورفع الظلم والهيمنة عنها، وفتح مجالات استثمار الثروات العربية، وحل المشكلات التي يعانيها المجتمع العربي، ذلك أن هذه المشكلات هي مشكلات قومية ولا تحل إلا في إطارها القومي، وإخضاع الثروات والبشر لتخطيط شامل يردم الهوة التي حدثت بين الأمة والتقدم العلمي ، وتسترد الأمة علماءها وباحثيها الذين لا يجدون مجالاً لأبحاثهم على أرض أمتهم في ظل الأوضاع الشائهة الراهنة، وتسترد الأمة أبناءها، أبناء شهداء التحرير والمقاومة الذين طاردهم النظام الإقليمي فألقوا بأنفسهم في قوارب تهيم بهم في البحار حتى إذا وصلوا عملوا على تنظيف شوارع المستعمرين الذين طردهم آباؤهم وأجدادهم، أو تحملوا مذلة الاصطفاف أمام سفارات دول الهيمنة يستجدون “سمة دخول “…
إن للأمة حقاً، كما أن لكل الشعوب المنهوبة ثرواتها، حقاً في الثورة العلمية التي حصلت إن كان على صعيد العلوم التي نشرها العرب أيام نهضتهم، أو على صعيد مشاركة العلماء العرب في النهضة العلمية التي يدعيها الغرب لنفسه هذه الأيام، أو على صعيد الإمكانيات والثروات التي ينهبها الغرب من بلاد العالم ، ومنها بلادنا.
إن هناك عهوداً من السيطرة الأجنبية والتخلف فرضت على الأمة وأدت إلى تشويه في توزيع السكان بين المحيط والخليج . ولا بد للحركة القومية من ثم أن تعيد رسم خريطة الأمة بشرياً واقتصادياً . وسيتاح للشعب العربي أن يعيد وصل ما انقطع من صلات وتفاعل . وستستعيد جوامعنا وكنائسنا دورها الإشعاعي والمركزي . وستستعيد الأمة ما تتمكن من استعادته من ثروتها المنهوبة وآثارها المنهوبة، وأهم من هذا وذلك ستستعيد دورها المسروق منها هذه الأيام ، هذا الدور الذي أثبتت التجارب الحية أنه لها، وأن عليها أن لا تتخلى عنه مرة أخرى ، حتى للذين يدعون أنهم يحملون أفكارها وديانتها.
الأمة عندما تستعيد دورها لن تحيا بما تملك وحسب، وإنما ستعيد لرسالة الإنسانية والحضارة القائمة على المساواة والعدالة توهجاً أشد ما تكون الإنسانية حاجة إليه هذه الأيام .
( 9 )
3- على صعيد الدولة القومية : إن هناك خلطاً مقصوداً بين مفهوم الدولة القومية والدول الإقليمية التي حكمها قوميون أحياناً .. والفرق بيّن وشاسع بين النموذجين، فالقوميون الذين حكموا الدولة الإقليمية لم يحولوها إلى دولة قومية للأمة ، بل العكس، فإن تلك الدولة الإقليمية طوعت القوميين أحياناً، وخذلتهم في معاركهم القومية أحياناً أخرى، وأكلت أحلامهم القومية في الأحوال كلها.
الدولة القومية التي يتطلع القوميون لبنائها هي الدولة التي تتطابق حدودها مع حدود الوطن والأمة. وبالتالي تمتلك الأركان المشروعة للدولة وهي :
– الوطن : الوطن العربي .
– الشعب : الأمة العربية .
– السلطة : وهي السلطة المشروعة، أي يجب أن تتوافر لها عناصر الشرعية والمشروعية، ونحن هنا لن نستبق الأحداث ونتحدث عن طبيعة هذه الدولة وتفاصيل أجهزتها وطرق إدارتها وتداول السلطات فيها. لكن لا بد من تحديد الثوابت التي يبني عليها القوميون مؤسساتهم القومية ومنها الدولة :
أولاً : إن مؤسسة الدولة القومية يجب أن تتيح أوسع الفرص لمشاركة الشعب في اتخاذ القرارات على مختلف الصعد، كما ستؤمن تكافؤ الفرص . وبالتأكيد فإن دولة الأمة العربية لن تكون شكلاً من أشكال الدول الرأسمالية أو الشمولية، ولكنها ستكون دولة الإنسان العربي الحر من كل أشكال القيود، والذي ستتاح له كل الفرص لممارسة هذه الحرية. ذلك أن الجدل الاجتماعي هو الذي ينتج التطور، والجدل الاجتماعي لا يمكن أن يمارس في ظل أجواء القهر السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي.
ثانياً : إذا كانت الحركة القومية هي التي ستنجز عمليات التحرير والتوحيد، ومن ثم الوصول إلى دولة العرب القومية ، فإن هذا لا يعطي القوميين أي حق في احتكار حكم الدولة القومية . ذلك أن مقدرة القوميين على التحرير والتوحيد لا تعطيهم الحق في الانفراد بالادارة و الحكم حيث المهام مختلفة والمقدرات المطلوبة لذلك مختلفة أيضاً . إن إدارة مؤسسات الدولة القومية ستكون متاحة للقادرين الذين سيختارهم الشعب العربي، أما كيف يتم هذا الاختيار، وكيف سيتم تداول السلطات فهذا سيتم في حينه أستناداً لمبدأ المساواة الموضوعية وليس الشكلية لكل مواطني الدولة القومية .
ثالثاً : إن التعددية السياسية ستكون متاحة في الدولة القومية، وحرية طرح البرامج السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية مكفولة للجميع . وهذا يعني أن السلطة في الدولة القومية سوف يتولاها الفصيل السياسي الذي يقدم برنامجاً مقنعاً للغالبية من أبناء الأمة، أياً كان هذا الفصيل، وأياً كان نهجه.
رابعاً : إن أجهزة الدولة القومية وفي سنواتها الأولى ستنشغل في إعادة توزيع الثروات العربية، وإعادة هيكلة المجتمع العربي والعمران العربي، والزراعة العربية، والصناعة العربية، واسترداد ما يمكن استرداده من الثروات العربية المنهوبة أو المهربة، ولكن السنوات التالية ستكون حافلة بالبناء والتنمية والاستثمار الشامل لكل إمكانيات الأمة وطاقاتها.
( 10 )
ونختم بما قاله عصمت سيف الدولة : ” لما كان الجدل الاجتماعي هو الطريق الوحيد الذي يعرف به الناس في المجتمع الغاية ، فإن النظام القانوني في المجتمع لا يكون مشروعاً إذا تضمن قيوداً سياسية أو اجتماعية على مقدرة الناس على الجدل الاجتماعي”.
وبالتالي ، فإن البداية تكون بمواجهة الاستبداد والطغيان الذي يعطل بالقهر والتضييق على الحريات والقمع تفعيل “قانون الجدل الاجتماعي” …
إذن ، فإن نضال الطليعيون العرب الجدد يبدأ بالنضال ضد القيود والعقبات التي تعيق “الجدل الاجتماعي” المتمثلة بالاستبداد والطغيان والقيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير ، فحتى تكون الحرية أخيراً ، لابد أن تكون الحرية أولاً ….
حبيب عيسى

أضف تعليق