تونس الحرية “المدينة”

 

على بساط الثلاثاء
109

تونس الحرية
“المدينة”

( 1 )
منذ أيام غادرت روحي هذا الجسد المحكوم عليه أن يبقى في المشرق ، بعد أن حاولت تلك الروح أن تأخذه معها إلى قرطاج وصفاقص وسيدي بو زيد والقيروان والقصرين ونابل وجندوبة لتتجول بذلك الجسد في سائر أنحاء حاضرة العرب هناك علهّ يحظى باحتضان التراب المخضب بدماء شهداء الحرية العربية ، لكنها الروح التي تعاند عندما يعجز مسكنها “الجسد” عن التحليق معها ، فتسعى للانعتاق منه ، تغادره إلى حيث الحرية ، قد تعود إليه ، وقد لا تعود ، لقد كان لي تجربة غنية مع تلك الروح عندما حُشرت وإياها في زنزانة منفردة ، عندها كانت تغافلني وتغادر لتعود إلي بما أحب أحياناً ، وبما لا أحب أحياناً أخرى ، وكم من مرة أيقظتني في أجواء العتمة ، تلك ، لتزف إلي فرحاً ، أو لتكرّث لدي أحزاناً ، وعندما غادرت عتبات الزنزانة الضيقة تمرّدت روحي مرة أخرى ، وقالت ساخرة : هل تعتقد أن حدود “سايكس بيكو” أقل ثقلاً على الروح من زنزانتك المنفردة السابقة …؟ ، قالت ذلك وغادرت ، لكن إلى أين ؟ ، أليست الديار العربية متشابهة ؟ ، قالت بحسم : “الله يعّيشك” إلى تونس ، ورحلت ، كانت بين الفينة والأخرى ، وعندما يضيق صدري ، تعود لتبلسم الأحزان تحمل إلي مشاعر جياشة بين أنين ، وحروف تصرخ ، وتبكي ، وتحفزّ ، وتقسوا ، وتحنوا ، يكفي إنها من تونس التي تحتضن على البعد أخوة وأحبة ومناضلين أعرف بعضهم ، لكنني أتخيل ملامح الجميع ، وأتحسّس نبرات أصواتهم ، كنت أسألها بإلحاح : متى سيفعلونها ، لو قرروا أن يفعلوها لابتدأت الخطوة الأولى من ديارهم باتجاه العشرة آلاف ميل بين عيون موسى في الخليج ، والعيون على المحيط ، تونس هذه ، حلمت يوماً أنني سأهاجر إليها ، لا بأس في أن تسبقني روحي إلى هناك ، صحيح أن شيخوختي قد لا تسعفني في مجاراة الشباب العربي الثائر ، لكنني على الأقل سأستعين بعكازي ، وأتتبع خطاهم … حتى إذا حانت ساعة الرحيل عن هذه الدنيا تكون شفاعتي أنني قضيت في نقطة ، ما ، على الطريق وراءهم …
( 2 )
الآن ، وقد تخطى المناضلون في تونس حاجز الخوف ، فارتعدت فرائص الطاغية خوفاً وهلعاً ، نقول للأخوات والأخوة الأعزاء في حاضرة العرب الخضراء ، إنها البداية ، والطريق مازال طويلاً إلى الحرية ، واللصوص على المنعطف لسرقة الثورة …
( 3 )
إن ما جرى حتى الآن درس بالغ الدلالة في مدرسة الاجتماع الإنساني ، لكن ما يعنينا هو تتبع أثر هذه المحاضرة النضالية المستمرة ، المخضبّة بدماء الشهداء ، وتداعياتها في المجتمع العربي ، وما سيترّتب عليها في دوائر السلطات التي تحتل الوطن العربي وتعيث فيه فساداً وإفساداً ، من جهة ، وكذلك ما سيترتب عليها في الدوائر الإقليمية المحيطة بالوطن العربي وفي العالم ، التي تخدّم عليها سلطات الاستبداد المحلية …
أولاً : إن الشعب العربي في تونس تحرك بمكوناته كلها كمواطنين وهذا عوّض إلى حد ، ما ، ما أدى إليه الاستبداد من إضعاف لمؤسسات المجتمع الحزبية والنقابية والثقافية ، مما يعني أن الوحدة الوطنية شرط أساسي … وهذا درس هام للشعب العربي بأن أية دعوة طائفية أو مذهبية أو أثنية أو إقليمية أو قبلية ترّسخ الاستبداد ، وتدمر بنية المجتمع ….
ثانياً : الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي يمكن إذا امتلكت الإرادة ، ولو كان من باب تجنب النهايات المأساوية ، يمكن أن تستفيد من الدرس ، فالحوار مع الشعب أجدى من استجداء المدد الخارجي ، فالخارج المصّنع لنظم الاستبداد أول من يقلب ظهر المجن للمستبدين فلا يسمح لطائراتهم بالهبوط في مطاراته رغم ما تحمله من مليارات منهوبة …
ثالثاً : لابد من الوقوف أمام الموقف الوحيد الذي صدر عن سلطة في الوطن العربي وهو الموقف الذي عبرّ عنه القذافي فقد رأى فخامته أن سبب ما جرى في تونس هو عدم جلوس الشعب في مواقع السلطة في بلدانهم على غرار ما يجري في ليبيا وقد بشّر سيادته الحكام بطول البقاء في الحكم على غرار سلطته لو اقتدوا به ، فهو يتمتع بالحبور والسرور بالسلطة منذ 41 عاماً ومازال أمامه عدة عقود أخرى ، فهنيئاً للشعب العربي في ليبيا بطلته البهية …
رابعاً : موقف القوى الدولية المعنية بأوضاعنا ، ونكتفي بموقفين معبرّين ، الأول : موقف السيدة هيلاري كلينتون التي فاجأها ما يجري في المغرب العربي فطارت إلى الخليج العربي لتحذر أصحاب الجلالة والفخامة من سوء العواقب إذا لم يستمعوا إلى نصيحتها ببعض الإصلاحات الاقتصادية ، والاجتماعية للتعويض عن الإصلاحات السياسية التي ترى سيادتها أنه لا حاجة إليها …
خامساً : الثاني : موقف ساركوزي الذي لم يستوعب حتى الآن كيف هرب ذين رغم كل المديح الذي كاله له …. ، إن هذين الموقفين الأمريكي والفرنسي يعبران عن أن معركة الحرية في الوطن العربي هي في مواجهة الطغاة والغزاة في الوقت ذاته ، وأن كل ما يتشدق به الغرب الاستعماري عن الحرية والديمقراطية لا يليق بمجتمعنا العربي ، من وجهة نظره …
( 4 )
باختصار شديد أن ما يسمونه الخارج المعني بمصالحه ، يجد أن مصالحه ليست مع الحرية والديمقراطية في الوطن العربي ، وعلى الشعب العربي أن يراهن على قراره وإرادته فالطريق إلى الحرية ليس مفروشاً بالورود ، وعلى الشعب العربي أن يقلعّ شوكه بيديه ، وان لا يعتمد إلا على مقدرته …
( 5 )
نحن مازلنا في قلب الحدث … فقط أردنا أن نحدث أنفسنا ، ونحن نتوجه بالتحية إلى الأشقاء في الحاضرة العربية تونس ، لقد راهنا في أحلك الظروف أن هذه الأمة لم ، ولن تموت ، وأن الذين توهموا أنهم دفنوها ، لم يدفنون إلا أوهامهم …. وتونس في القلب …إنها “المدينة” ، ومنها إلى ….
حبيب عيسى
E-mail:habib.issa@yahoo.com

 

أضف تعليق