ليس باسمنا .. ياسيادة اللواء ..

 

 

على بساط الثلاثاء

64

بقلم : حبيب عيسى

ليس باسمنا …

يا سيادة اللواء …!!

 

( 1 )

لم يكن الشعب العربي ينتظر شهادة اللواء عبد الكريم النحلاوي كي يحدد موقفاً مما حدث صبيحة يوم 28 أيلول – سبتمبر – 1961 ، كما أن الشعب العربي ليس بحاجة لمن ينكأ جراحه ، ويذكرّه بما جرى ، ذلك أن تلك الجراح لا تنسى ، فهي  مازالت نازفة بغزارة منذ ذلك التاريخ بين المحيط ، والخليج…

وإذا كان من حق الحالمين بأمة عربية موحدة ( ذات سيادة ، واستقلال  ، متحررة من الهيمنة ، والاحتلال ، والاستيطان ، والاستغلال ، والاستبداد ) ، اعتبار ذلك الحدث الانفصالي ، جريمة ، وأن الذين صنعوه مجرمين .. وأن جريمتهم مستمرة ، يستولدونها جرائم جديدة في كل يوم ، منذ ذلك التاريخ ، باعتبارها أم الجرائم ، وأبوها … فإن من حق الذين خططوا ، ودبروا ، ونفذوا انفصال الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة أن ينفشوا ريشهم ، ذلك أنهم غيرّوا مسار الأحداث في الوطن العربي ، بحق ، بالاتجاه المعاكس ، وكان لذلك اليوم الإنفصالي الطويل .. ما بعده .. ولهم أن يفخروا ، بأن كل هذا المشهد السائد في الوطن العربي ، هذه الأيام .. هو من صنع أيديهم … لقد حرروا الشعب العربي في سورية من الاحتلال المصري ، ومن الديكتاتورية ، والاستبداد ، والقمع ، والفساد …كما أن النتائج التي تمخضت عن فعلتهم في ذلك اليوم المفصلي ، واضحة للعيان .. تكفي نظرة عجلى على الواقع العربي الراهن هذه الأيام ، حيث الحرية ، وحقوق الإنسان العربي مصانة ، وحيث العدالة ، وسيادة القانون ، والمساواة ، والمواطنة ، وحرية الرأي ، والديمقراطية ، والمؤسسات المنتخبة ، وفصل السلطات ، والتنمية ، والتقدم ، ووضع الثروات العربية بتصرف الشعب العربي ، وحيث الوطن العربي يأخذ دوره اللائق في هذا العالم ، لا يعتدي ، ولا يعتدى عليه ، وحيث الحكم للشعب ، وبالشعب لا تسلط عليه ، ولا تعسف ، ولا انتهاك لحقوقه الأساسية ، وحيث تحترم حدود الأمة ، وسيادتها على كامل أرضها لا مستوطنات للصهاينة في قلبها ، ولا احتلال لأجزاء من وطنها من دول الجوار ، ولا هيمنة على ثرواتها ، ومقدراتها من قوى الهيمنة والتسلط الدولية ، وحيث المواطنة هي سيدة الموقف في الوطن العربي فلا تكفير ، ولا إقصاء ، ولا تفرد ، ولا استئصال ، ولا فتن ، ولا اقتتال ، ولا نعرات طائفية ، ولا عنصرية ، لا مذهبية ، ولا إقليمية ، ولا قبلية ، ولا عائلية … وإنما مجتمع متكامل متضامن يصيغ التقدم ، والنهضة … فشكراً للانفصال ، وللانفصاليين ، الذين صنعوا لنا هذا النعيم .

( 2 )

من حق الانفصاليين إذن أن يفخروا بما صنعت أيديهم ، فقد خلصّوا الأمة العربية ، وحرروها من تسّلط الجمهورية العربية المتحدة ، وقمعها ، ومن ديكتاتورية جمال عد الناصر التي كانت تعيق تقدم الأمة ، وتطورها ، وحريتها ..ووصلوا بها ، ومعها  إلى ما هي عليه الآن ، فكيف كان لهذه الأمة أن تنعم بما تنعم فيه هذه الأيام لولا نجاحهم في فصل عرى الجمهوريةة العربية المتحدة …؟! من أين كان للأمة الغربية كل هذا النعيم الذي تغرق فيه هذه الأيام ؟؟ ، فالحكام اليوم ، يختارهم الشعب ، ويحكمون بإرادة الشعب ، ويتداولون السلطة دورياً ، بإرادة الشعب ، وحقوق المواطنين العرب بين المحيط والخليج ، مصانة والمؤسسات ديموقراطية ، وتكافؤ الفرص بين الجميع ، وقيم العدالة ، والمساواة هي السائدة ، لا مخبرين ، ولا زنازين ، ولا تعسف ، بعد التخلص من ديكتاتورية جمال عبد الناصر ….

( 3 )

هكذا ، فإن المشهد الراهن في الوطن العربي ، تختلط فيه مشاعر المآسي ،  بمشاعر السخرية ، فمنذ نصف قرن ن تقريباً ، اختفى أولئك المنفذين ليوم 28 أيلول ، سبتمبر ، 1961 بعد أن قبضوا أجورهم ، وتركوا الساحة ، لمن يستثمر ما فعلوه .. وبما أنني استند دائماً إلى حسن النية ، فقد راودني الظن ، بأن جنرالات الانفصال ، قد تواروا عن الأنظار خجلاً من فعلتهم ، بعد كل هذا الذي ترتب عليها في الوطن ، والأمة .. لكن ظني ، على ما يبدو ، كان من بعض الظن الأثم ..

وحتى بعد الإعلان عن أن سيادة اللواء عبد الكريم النحلاوي ، سيطل علينا شاهداً على العصر ، فإنني لم أبرح موقفي ، وتوقعّت أن سيادته ، وبعد نصف قرن على الحدث ، وبعد أن دخل سيادته المرحلة الأخيرة من أرزل العمر ، سيقف وقفة رجل موضوعي ، يقيمّ ما جرى ، في ضوء ما يجري ، أو على الأقل يعتذر لأنه ، ربما لم يكن يتوقع أن تكون نتيجة الانفصال ..هي النتيجة التي آلت إليها الأمور .. لقد كنت أتوقع أن يبّرر التآمر على الجمهورية العربية المتحدة ، بالأخطاء التي رافقت ولادتها ، وقيامها ، لكن لم أتوقع كل هذا التضخيم ، أو الانتقاء ، أو الاستغراق في التفاصيل ، المنتقاة ، لم أتوقع أن يغفل الخطايا التي ترتبت على فصم عراها ، لم أتوقع أن تحجب عنه جزمة جمال عبد الناصر التي أشهرها في وجه اعداء الأمة ، والمتآمرين عليها ، كل تلك الجزم ، والزنازين ، وسياط الطغاة ، وقذائف الغزاة ، وفساد المفسدين ، وقمع المستبدين التي تقرع رؤوس العرب صباح ، مساء من جراء تداعيات الانفصال .. لم أتوقع أن كل تلك الخرائب ، والفتن ، والهزائم ، والاستلاب ، والتخلف ، والفساد ، والطغيان الذي أعقب الانفصال ، لم يحجب عن ذاكرة سيادة اللواء التفاصيل الصغيرة عن سيطرة الضباط المصريين ، على المؤسسة العسكرية السورية ….، كما أنه لم يرف له جفن ، وهو يفخر بأنه نجح في وقف زحف ” الغوغاء ” من العرب الذين التفوّا حول مشروع جمال عبد الناصر التحرري التوحيّدي العربي التقدمي مغادرين خنادق الانفصاليين التي يتراكم فيها تراث طويل من الطائفية ، والعنصرية ، والمذهبية ، والإقليمية ، والقبلية ، فها هي الأمة العربية ، تعود بعد الانفصال ، وبفضله ، لتتمسك بذلك التراث العظيم من البطولات فتخوض بالدماء حتى الركب وفاء لداحس والغبراء ، والجمل ، وصفين ، فلا صوت يعلو على الصوت بالثأر ، فكل عربي هذه الأيام قاتل ، وقتيل ، شاء هذا أم أبى ،  لكن من منّ  هذا الثأر ، ولمن ..؟ ، هذا الثأر أياً كان مصدره ، ومهما كان لبوسه ، يستهدف أمراً واحداً ، هو أن يبقى حال الأمة على ما هو عليه ..توليّ وجهها شطر الماضي تطحن بعضها بعضاً ، وتدير ظهرها للحاضر ، وللمستقبل ، وتنغمس في معارك الماضي ، فتقتل نفسها بأيدي أبناءها ، وتترك الحاضر ، والمستقبل ، للطغاة ، والغزاة ، والمفسدين في الأرض …

( 4 )

لقد كنت ، قد آليت على نفسي ، ومنذ عقود أن أنأى عن أي حديث شخصي يتعلق بولادة ، وانقضاء الجمهورية العربية المتحدة ، لأن الأبطال الذين صنعوا الانفصال ، والأبطال اللاحقين الذين استثمروه فيما بعد ، حوّلوا تلك التجربة الواعدة ، والمريرة ، في الوقت ذاته ، إلى فخ ينصبونه للقوميين العرب التقدميين  ، التوحيديين ، النهضويين ، لينشغلوا بما جرى عن ما يجري ، أو عن ما سيجري    عن طريق الخلط بين مفهوم السلطة ، ومفهوم الأمة ، واعتبار أخطاء السلطة في الجمهورية العربية المتحدة دليل على فشل المشروع الوحدوي العربي برمته ، فما حدث برأيهم ليس فشل تجربة ، وإنما دليلاً لنقض الأهداف ، والاستراتيجيات ، والمبادئ القومية العربية من أساسها .. تحدثهمّ عن حق الأمة العربية في الوحدة ، فيحدثونك عن مخابرات دولة الجمهورية العربية المتحدة ، تحدثهمّ عن حق الأمة العربية في السيادة ، والاستقلال ، والتحرر ، ورفض الهيمنة ، فيحدثونك عن الديكتاتورية ، والاستبداد ، وسيطرة المصريين على دولة الوحدة .. المهم ، بالنسبة إليهم ، هو إشغال المشروع النهضوي القومي العربي التقدمي ، عن التقدم ، وإلصاق كافة لأخطاء ، والخطايا ، بالتجربة ، وبالتالي إلزام القوميين التقدميين بالدفاع حتى عن الأخطاء ، والخطايا ..، رغم أنهم هم الوحيدين المتضررين من تلك الأخطاء ،  والخطايا ، وأن الانفصاليين هم المستفبدين منها ، لهذا كله ، كان لابد من الخروج من هذا المأزق بفرز القوى ، والأفكار ، والقضايا ، والتخلص من هذ الخلط المريب ، فالمشروع القومي العربي التقدمي هو المتضرر أولاً ، وأخيراً من جميع مظاهر الأخطاء ، والخطايا ، والقوميون العرب التقدميون النهضويون هم الأولى بمواجهة الأخطاء ، والخطايا ، حتى لو كانت من إنتاج أفعالهم ، فهم يتمسكوّن بالفضيلة المتمثلة بالتراجع عن الخطأ ، لهذا فقد كان عليهم الصدق مع النفس ، والتصادق مع الآخرين ، فلا يحيدون عن الطريق الذي ارتضوه ، والكف عن إلقاء اللوم على الرجعية ، وعملاء الاستعمار ، والانفصاليين ، والرجعيين ، والإمبرياليين ، والصهاينة … والبحث عن العلة في أنفسهم ، وسد الثغرات في صفوفهم ، وسد الذرائع ، بشكل عام ، وعليهم الاعتراف بحقوق الآخر ، فإذا كان من حقهم السعي لتغيّير الواقع باتجاه مصير عربي مختلف ، فإن من حق القوى التي تستثمر هذا الواقع الدفاع عن مصالحها ، وبناء عليه :

–        للانفصاليين حق اللجوء إلى كافة الوسائل حفاظاً على التجزئة ، وبالتالي ، فإن سعيهم ، لفصم عرى الجمهورية العربية المتحدة ، ولو عن طريق التآمر له ما يبرره من وجهة نظرهم ، ولا يلامون في السعي لمقاومة قيام أية جمهورية عربية متحدة قادمة ..

–        ومن الطبيعي أن تسعى قوى التخلف ، والفتن لمقاومة مشاريع النهوض ، والتنوير .

–        ومن الأولويات التي يعتمدها الطغاة ، والمستبدين التضييق على الحريات العامة للمواطنين ، وقمع حرية الرأي ، وانتهاك الحقوق الأساسية ، والتسلط على البلاد ، والعباد …

–        ومن الأساليب المستخدمة من قبل الفاسدين ، والمفسدين انتهاك حرمة القوانين ، والأنظمة ، وتخريب المؤسسات العامة ، وإشاعة قيم اللصوصية والرشوة ، والنفاق ، وتشريع العلاقات المافاوية في المجتمع .

–        ومن حق قوى الاحتلال ، والسيطرة ، والهيمنة الدولية في الواقع العربي ، من أول الصهاينة ، إلى المستبدين ، وإلى آخر الإمبرياليين في هذا العالم ، مقاومة كافة مشاريع التحرّر ، والتغيّير ، ودفع المجتمع العربي إلى الاستكانة ، والاستلاب ، والتسليم ، بالأمر الواقع .

وليس للذين يحملون المشروع النهضوي القومي العربي التحرري التقدمي أن يحتجّوا ، للحظة واحدة على فشلهم بتحميل المسؤولية لهؤلاء ، أو أولئك .. لهذا ، فإن المشروع النهضوي التحرري في الوطن العربي وقع في الخطأ الجسيم عندما أغفل مواجهة السلبيات في تكوينه ، وبنيته واتجه لتبرير هزائمه ، وانتكاساته بتوجيه الشتائم للإمبريالية ، والصهيونية ، والرجعية …

( 5 )

وإذا كنا قد اعتدنا أن نحتفل كل عام بيوم 22 شباط – فبراير – 1958 ذلك اليوم الذي شهد ولادة الجمهورية العربية المتحدة ، رغم الأحزان ، والمآسي لنتنفسّ ذلك الحلم ، الذي كان ، ومازال جميلاً ، نستذكر فيه الشموخ ، والتحدي وطلة جمال عبد الناصر ، فإننا لن نسمح للذين صنعوا الانفصال أن يفسدوا علينا عيدنا ….

ورغم أنني لن أغادر موقفي بعدم الدخول في سجال حول طريقة إدارة السلطة في الجمهورية العربية المتحدة ، لأن هذه القضية تتعلق بالسلطة ، أية سلطة ، مهما كانت طبيعتها ، تكوينها ، تركيبتها ، لكن ذلك لا علاقة له على الإطلاق بمشروع النضال القومي التحرري النهضوي العربي .. إلا من حيث الغائية النهائية ، بمعنى أن ذلك المشروع يهدف إلى إقامة دولة الوحدة العربية الديمقراطية العادلة التي تتطابق حدودها مع حدود وطن الأمة ، ويتساوى في مواطنيتها كامل شعب الأمة ، وبالتالي لابد من إزالة هذا الخلط المشبوه بين شرعية السلطة ، ومشروعية الأمة ، فالفقه القانوني متواتر حول أركان الدولة ، وهي الشعب ، الوطن ، السلطة ، فالسلطة هنا قد تكون مشروعة ، أو غير مشروعة ، ويعتمد ذلك على مدى تمثيلها لإرادة الشعب من جهة ، وعلى مدى بسط سيادة الدولة على أرض الوطن ، لكن عدم مشروعية السلطة ، لا يغيّر من مشروعية الشعب ، والوطن ، لإنها الركن الثالث الذي يعتمد على الركنين الأول ، والثاني ، لهذا قد نجد أنفسنا بمواجهة سلطة غير مشروعة ، إلا أن هذا لا يبرر المس بمشروعية وحدة الشعب ، والوطن ، على العكس من ذلك ، فإن على قوى الشعب الحية أن تناضل للتغييّر ، وتقويم المسار لإقامة سلطة مشروعة تمثل إرادة الشعب ، لكن ، وتحت كل الظروف تندرج جميع الأفعال ، والممارسات للمس بوحدة الوطن ، والشعب ، أعمالاً إجرامية تعاقب عليها كافة القوانين الوضعية ، على اختلافها …

( 6 )

دعونا نحاول أن نطبق هذه القواعد القانونية الثابتة على الجمهورية العربية المتحدة ..، وبدون الدخول في أية تفاصيل ، سنعتبر كل ما قاله ، ويقوله  ، وسيقوله سيادة اللواء عبد الكريم النحلاوي ، صحيحاً ، وانه لا يكذب ، فنحن أمام دولة تدعى الجمهورية العربية المتحدة يدعيّ السيد اللواء أن السلطة كانت ديكتاتورية فيها لا تمثل إرادة الشعب ، ليكن .. هنا نسأل : كيف تتم معالجة ذلك ..؟ هل يتم ذلك بفصل عرى الدولة ؟ ، وتقسيمّ الوطن ، والشعب ، أم بمعالجة الأخطاء ..؟ ، وإقامة سلطة تمثل إرادة الناس ، كل الناس ..؟ ، هل هذا ما سعى إليه سيادته ..؟ ، هل هذا ما فعله ؟ ،  أم ، أنه ، ومن معه انقضّوا على الوطن ، والشعب ، وفصلوا إقليماً من وطن العربية المتحدة ، ليقيموا عليه سلطة انفصالية ، لن نتحدث عن الديموقراطية التي آلت إليها .. ولن نقول فيها شيئاً ، الآن ..؟ ولن نلاحق تداعياتها ، وإلى أي درك انحطتّ بالوطن ، والشعب …

( 7 )

القضية ، هنا ، في الوطن العربي ، أكثر تعقيداً ، والجريمة التي ارتكبت صبيحة يوم 28 أيلول –سبتمبر 1961 أبعد أثراً .. ذلك أننا في القرن العشرين ، قد دخلنا عصر الأمم .. والهيئة الدولية ، رغم كل تحفظاتنا على دورها ، وممارساتها ، والقوى النافذة فيها ، هي “هيئة الأمم المتحدة” ، وليس هيئة الدول المتحدة .. يترتب على ذلك أن ، شخص القانون الدولي المشروع ، هو الدولة التي تمثل أمة ..ونحن أمة عربية ، هناك من يجادل بحقها في الوجود ، ليكن حرية الرأي حق للجميع ، ونحن من هذا الجمع ، فمن حقنا أن نسعى لوحدتها ، ورغم الاختلاف فإن هناك شبه توافق ، حيث لا ينكر أحد في الوطن العربي ، أو في العالم أن الأمة العربية معتدى عليها من الخارج هيمنة ، ومعاهدات قسمّتها ، وطناً ، وشعباً ، ومعتدى عليها من الداخل سلطات استبدادية تدمر حتى النسيج الوطني في الأجزاء ، هنا نعود إلى صلب الموضوع الذي نعالجه ، حيث بدأ شق الطريق إلى الجمهورية العربية المتحدة … في خمسينات القرن المنصرم ، عندما بلغ التمرد العربي أوجه ، بعد ما عرف ، بنكبة فلسطين ، انقلابات ، ثورات شعبية ، مقاومات في الأجزاء المحتلة ، حراك جماهيري واسع ، أجهزة قمع إقليمية ضعيفة ، لم تكن قد تغوّلت بعد ، كاريزما بطل شعبي تجاوز حدود التجزئة هو جمال عبد الناصر ، هذا كله أثمر في إقامة دولة نواة للوحدة العربية هي الجمهورية العربية المتحدة ، على جزء من أرض الأمة العربية في سورية ومصر ، وبغض النظر عن طريقة نظام الحكم ، والسلطة فإن الأفعال ، والممارسات لاستكمال إقامة دولة الأمة المتطابقة مع أرض الوطن ، وشعب الأمة هي أفعال ، وممارسات مشروعة ، وعلى العكس من ذلك ، فإن جميع المحاولات بالاتجاه المعاكس هي اعتداء ، وجرائم يطالها القانون .. ولا يمكن تبريرها بطبيعة السلطة ، وتركيبة نظام الحكم ، وسلوك الحاكمين … وشواهد التاريخ البشري لا تحصى في هذا المجال …

هذا من حيث المبدأ ، لكن ، وحتى لا نخرج عن موضوع البحث ، هل أن ما دار ، ويدور بين سيادة اللواء عبد الكريم النحلاوي ، والأستاذ أحمد منصور ، يتعلق بالبحث عن الحقيقة ..في طبيعة نظام الحكم ، والسلطة في دولة الجمهورية العربية المتحدة ..؟

لو كان الأمر كذلك ، فإن علينا أن نرحب ، ونوّثق ، ونضمّ كل ما يقال في تلك “الشهادة” إلى ملف الجهورية العربية المتحدة ، لنتفادى الأخطاء ، والثغرات ، والهنات التي دفعت سيادة اللواء عبد الكريم النحلاوي ، ورفاقه إلى فصم عرى الجمهورية العربية ، لا أكثرمن ذلك ولا أقل .. ؟ ، وذلك لتلافي الخلل في المستقبل ، وبالتالي تقديم شكر لهما يستحقانه ..

لكن ، وللأسف الشديد ، ليس هذا ما جرى في تلك الحلقات ، حتى الآن ، ومن الواضح ، أنه ليس هذا هو المنهج المتبع ….

( 8 )

الأستاذ أحمد منصور إعلامي متمّيز ، وكون له موقفاً معادياً من القومية العربية ، وبالتالي من الجمهورية العربية المتحدة ، ومن جمال عبد الناصر ، لا ينال من موهبته ، وهذا رأيه على أية حال علينا أن نحترمه ، ونحاوره ، وكونه صحفي ، فإن هذا لا يعني أن يتخلى عن موقفه ، ذلك أن الطبيعة البشرية لا تعرف الحياد المطلق ، أو الموضوعية الكاملة ، وبالتالي علينا أن نحترم رأيه ، وموقفه بغض النظر عن الاتفاق والاختلاف ، فقبل أن نعطي أنفسنا الحق في الرأي ، والموقف علينا أن نحترمه من الآخر المختلف ، لكنني ، وبكل التصادق اقول للأستاذ أحمد منصور ، ولسيادة اللواء عبد الكريم النحلاوي ، أن المثل العربي يقول : أن العربي يأخذ بالثأر ، ولو بعد أربعين عاماً ، والجمهورية العربية المتحدة قد مضى على فصم عراها نصف قرن ، وجمال عبد الناصر مضى على غيابه ، أو تغييبه أربعين عاماً ، والظروف الموضوعية الراهنة في الأمة العربية تقتضي وقفة مع الذات ، ومع الضمير ، الأمر جلل أيها السادة ، نحن ، في الأمة العربية ، في خطر ، وأنت يا سيادة اللواء عبد الكريم النحلاوي في سورية ، في خطر ، وأنت يا أستاذ أحمد منصور في أمتك الإسلامية ، في خطر ، وبالتالي ، آن لنا ، ولكما أن نتعامل مع تقييمّ الجمهورية العربية المتحدة ، وناصرها بقليل من الموضوعية ، الإنصاف ، وأن لا يغيب الواقع الراهن الخطير علينا جميعاً ، والذي هو من تداعيات الانفصال عن تقييمنا ، بعيداً عن منطق الثأر ، والتبرير ، وتصفية الحسابات ، فهذا أجدى لنا ، ولكم ، وللمستقبل الذي ننشده نحن ، ولا نشك أنكم لا تنشدون لهذه الأمة إلا الخير ، فدعونا ندقق من أين يأتي هذا الخير ؟ ، قبل أن نكتشف ، بعد فوات الأوان ، أننا جلبنا لها الشر من حيث لا ندري ، دعونا نتحاور بموضوعية مهما كان التباين .

وهنا لابد أن نقف مع مفهوم “الشهادة” التي يدلي بها ضيوف الأشتاذ أحمد منصور ، وأن نضع شهادة اللواء عبد الكريم النحلاوي في إطارها فقد سمعنا بهذا الشأن شهادة المرحوم حسين الشافعي نائب رئيس الجمهورية ، وسمعنا شهادة الفريق سعد الدين الشاذلي ، وسمعنا شهادة اللواء جمال حماد ، وأرصفة الشوارع في المدن العربية تتزاحم عليها المذكرات والشهادات من كل حدب ، وصوب ،  ونحن نستمع اليوم لشهادة اللواء عبد الكريم النحلاوي ، ونستمع عبر نافذة أخرى ، من الفضائية ذاتها ، إلى شهادة مستمرة من الأستاذ محمد حسنين هيكل …

هل يملك أحد أن يجيب على السؤال :

أي تلك الشهادات نصّدق …؟

لن أبحث عن جواب ، فلنستمع إلى الجميع ، لكن هل كانت السلطة في الجمهورية العربية المتحدة شراً مطلق ..؟ وهل كان جمال عبد الناصر ديكتاتوراً ، وحسب .؟!

إنني لا أسعى إلى التوسع في هذا الموضوع ، فهو مفتوح لحوار دائم ، لكنني سأعود إلى شهادة اللواء عبد الكريم النحلاوي ، باختصار شديد ، لأنني أرغب فعلاً أن أخرج منها بأسرع ما يمكن ، فأنا أتفهم هواجس اللواء النحلاوي باعتباره ينتمي إلى المؤسسة العسكرية في سورية ، تلك المؤسسة التي تم تأسيس مكوناتها في ظل الاستعمار الفرنسي ، وفي ظل ظروف معقدة ، واستكمل ذلك البناء بعد تنفيذ خريطة سايكس بيكو ، وتحديد حدود دولة الجمهوية السورية بحدودها الحالية ، وقد تأثرت المؤسسة العسكرية في سورية ، كغيرها في الوطن العربي بالأحداث الكارثية في فلسطين التي أدت إلى قيام دولة المستوطنات الصهيونية فانعكس ذلك عليها خاصة ، قلقاً ، وتمرداً ، وتمثل ذلك في انقلابات عسكرية متلاحقة شهدتها سورية في واقع موضوعي قلق ، ومتفجر ، في وسط من الغضب الشعبي العارم أدى من حيث النتيجة إلى قيام الجمهورية العربية المتحدة وكان من طبيعة الأشياء أن جميع القوى المتضررة بين المحيط والخليج ، وفي سائر أنحاء العالم ، وفي الإقليميين الشمالي ، والجنوبي للعربية المتحدة أن تحاول استرداد أنفاسها ، ومن ثم الانقضاض لفصل إقليمي دولة الوحدة ، لأن التعايش مستحيل ، فإما أن تتصاعد مسيرة الوحدة باتجاه حدود الأمة ، وإما أن يتم القضاء على دولة الجمهورية العربية المتحدة ، هذا هو جوهر الموضوع بغض النظر عن التفاصيل …

( 9 )

ونحن هنا ، كما أكدنا ، لن ندخل في سجال مع اللواء النحلاوي ، ولن نلاحق التناقضات ، فتارة يقول ان الضباط المصريين كانوا يحكمون سورية ، وتارة أخرى يقول أن عبد الحميد السراج كان الحاكم المطلق ، وأن المشير عبد الحكيم عامر كان مشغولاً بتعاطي ” الحشيش ” … هذا كله لم يستفذني …الذي استفذني قول سيادته أن الشعب السوري بات ناقماً على الوحدة ، ليبرر بعد ذلك أن الانفصال كان مجرد تنفيذ للإرادة الشعبية ..وأن سيادته ، ومن معه كانوا مجرد منفذين لتلك الإرادة الشعبية ، ونحن سنتناول هذه المسألة حصرياً ، وباختصار شديد وللأسباب التالية :

أولاً : إذا كان سيادة للواء يبحث عن مبررات لإنفصال العربية المتحدة ، فإننا لن نقابل ذلك بتبرير التوجه الوحدوي ، أو تبرير الأخطاء ، والخطايا التي ارتكبت ، ولن ، نحمّله المسؤولية ، ولن نحملهّا للظروف الموضوعية ، أو للتآمر الداخلي ، أو الخارجي ، فمسؤولية الوحدة  تقع أولاً ، وأخيراً على عاتق الوحدويين ، ومسؤولية صيانتها على كاهلهم حصراً …

ثانياً : إن بنية السلطات في الوطن العربي ، ومن بينها ، بنية المؤسسات العسكرية ، والأمنية تحديداً ، ليس متعلقاً بقضية الوحدة العربية ، فمؤسسات دولة الجمهورية العربية المتحدة ، لم تكن استثناء ، وهي في السياق العام قبل الوحدة ، وأثناءها ، وبعدها تعاني من خلل شديد ، في بنيتها ، ولم يكن من الممكن معالجة هذا الخلل في فترة الوحدة المحدودة ، ولكن هذا لا يعني ، أننا نبرّر ، لذلك نعترف أن الفشل في وضع خطة استراتيجية للمعالجة الجذرية في ظل دولة الوحدة هو الذي أدى في الأساس لنجاح مخطط الانفصاليين …

وإذا كان الأستاذ أحمد منصور ، قد عقبّ مستنكراً على استفاضة سيادة اللواء عبد الكريم النحلاوي في الحديث عن فساد المؤسسة العسكرية في العربية المتحدة ، قائلاّ : كيف يمكن لهذا الجيش أن يحارب إسرائيل ..؟ ..وإذا كان قد قفز من مقعده استنكاراً كيف يعين ضابط ، مراقب أفران ، فإننا لن نحرجه بالسؤال بعد نصف قرن على فصل العربية المتحدة عن حال جيوش الأنظمة العربية في محاربة إسرائيل ..؟ ، وإن كانت تدق أبواب القدس هذه الأيام …؟

ثالثاً : لقد استفاض سيادة اللواء باعتبار قرارات يوليو الاشتراكية 1961 اعتداء على السوريين ، يبرر الانفصال ، وتلك المسألة ، على أية حال قد تكون المسألة الجوهرية ، في الانفصال ، فالوحدة العربية ليست مشروعاً فوقياً ، وإنما تتعلق بتحرير الإنسان العربي من سائر وسائل القهر ، والقمع ، والاستغلال ، وإقامة الدولة العادالة ، والمساواة ، والتكافل الاجتماعي ، وكسر هذا التفاوت الحاد في توزيع الثروة بين شرائح المجتمع …

لكن إلى أي حد نجحت العربية المتحدة في ذلك ..؟ فهذه مسألة خاضعة للحوار ، والتصويب ، لكن من عير الممكن الحكم على التجربة ، ذلك أن الانفصال وقع بعد ثلاثة أشهر فقط من تلك القرارات ..

رابعاً : لن نقف عند الشهادة الثابتة تاريخياً ، والتي أدلى بها المرحوم الملك سعود عندما كان منفياً من أسرته في الاسكندرية ، والتي اعترف فيها للرئيس جمال عبد الناصر ، بالملايين التي دفعتها المملكة للذين نفذوّا الانفصال ، وبالوكالة عن من تم ذلك … ذلك أننا ، وكما قلنا من حق الذين يخشون الوحدة العربية الدفاع عن أنفسهم .

خامساً : من الثابت في علم القانون أيها الأستاذ العزيز أحمد منصور ، أن الذي يقوم بفعل ، أو يصنع حدثاً ، ما ، سواء كان جرماً ، أو يفترض ذلك ، لا تقبل شهادته عليه ، وإنما يحتاج إلى من يشهد عليه سلباً ، أو إيجاباً ، لكن يمكن في علم الإجراءات استجوابه ، أو سماع إفادته ، وفي الإقليم الشمالي ، وبعد استفحال دور الأجهزة الأمنية ساد مصطلح  ” استنطاقه ” ، وقد أطلقوا على الذي يقوم بذلك مصطلح ” المستنطق ” ، وسيادة اللواء قام بفعل محتلف عليه ، البعض يعتبره جرماً ، والبعض يعتبره ثورة تحررية ، وبالتالي فإن ما نشهده هو ” استنطاق ” ، وليس شهادة ، لكنني أشهد أننا أمام ” استنطاق ” ممتاز .

سادساً : دعنا نصدق كل ما قلته ، وتقوله يا سيادة اللواء عن ” الاحتلال المصري ” لسورية وعن القمع الذي مارسته الأجهزة البوليسية ، وعن قرارات التأميم الاشتراكي ، والإصلاح الزراعي .. لكن هل أدى هذا كله إلى أن الشعب العربي في سورية ، كان ضد الوحدة ؟، أو ضدّ الجمهورية العربية المتحدة ؟ ، وأن سيادتك ومن معك قمتم بفعيلة الانفصال ، باسمنا ..؟!

الجواب يا سيادة اللواء ليس رأياً ندلي به ، يستند إلى موقف معاد للانفصال ، وإنما هو شهادة حقيقية أدلى فيها الشعب العربي في سورية برأيه الصريح ، ودفع ثمنها دماء غالية ، وبالتالي فهي شهادة لا تنقض … ذلك أنه في صبيحة يوم 28 أيلول ” سبتمبر ” 1961 نجحتم ياسيادة اللواء في احتلال هيئة أركان الجيش الأول ، والإذاعة في دمشق ، وأعلنتم الانفصال ، ونقلتم المشير عامر إلى المطار ليغادر إلى القاهرة ، وأسرتم الضباط المصريين ، ورحلتموهم إلى الإقليم الجنوبي ، وانتهى بذلك دور سلطات القمع التي كانت أجهزة عبد الحميد السراج تمارسه على الشعب في الأقليم الشمالي ، والذي أودع السجن ، وانتهت جميع مظاهر الاحتلال المصري لسورية ، وانزاحت جزمة جمال عبد الناصر عن رقاب الشعب السوري ، فماذاحصل ..؟ ، صحيح أن الشعب العربي في الإقليم الشمالي أصيب بالذهول ، لم يصدّق في البداية ما يحدث ، ولم يكن مستعداً لمواجهة الإنفصاليين لأسباب تنظيمية تتعلق بقصور بنيان دولة الوحدة ، وليس بسبب بطولات الإنفصاليين ، لكن في الأحوال كلها واجه الشعب العربي في سورية الانفصال ، بالرفض ، منذ اللحظة الأولى ، ولم يجد الانفصاليون من يحتفي بهم ، على العكس من ذلك .. بدأ العصيان المدني : إضرابات مستمرة ، مظاهرات يومية ، مواحهات مع الإنفصاليين ، توتر دائم داخل المؤسسة العسكرية ، انقلابات ، وصراعات .. كان في الإقليم الشمالي جامعة واحدة في دمشق ، وفي كل مدينة ثانوية ، او عدة ثانويات … كان التظاهر شبه يومي ، وكان الشعب يرفع الصوت في جميع ربوع ، وجبال ، وصحاري ، ووديان الإقليم الشمالي ” بدنا الوحدة باكر باكر مع هالأسمر عبد الناصر ” ألا يكفي ذلك كله جواباً حاسماً ، لايمكن نقضه ، على ما يدعيه سيادة اللواء عبد الكريم النحلاوي هذه الأيام ..؟!

سابعاً : بعد الانفصال ، وليس قبله ، في ظل الانفصال ، وليس في ظل الوحدة ، ولدت في الإقليم الشمالي ، الحركة الناصرية ، باكورة الأحزاب ، والحركات الناصرية في الوطن العربي ، حركات ، وأحزاب ، وتجمعات تنادي بالوحدة ، والرد على الانفصال ، وترفع صور عبد الناصر تحدياً للانفصاليين ، فإذا كان الإقليم الشمالي ، وبعد الانفصال ، بات مهد الناصرية في الوطن العربي ، فإنه بذلك ، قد أثبت بما لايدع مجالاً للشك ، أن الانفصال لم يتم باسم الشعب العربي في سورية ، وإنما باسم أعدائه ، ويكون هذا الشعب قد حدّد موقفه من الانفصال ، والانفصاليين الذين نفذوا الانفصال …

( 10 )

أيها الشباب العربي …….

إنني إذ أعتذر لكم عن مضمون هذا الحديث ، فإنني لاأجد من أتوجه إليه في هذه الأيام الحالكة ، سواكم ، لاتنشغلوا بما يدور بين آبائكم من مناكفات ، عن الحاضر الذي يجب أن تعيدوا بنائه ، أو عن المستقبل الذي يليق بكم ، وبإمتكم ، تمردوّا علينا ، غادروا خنادق الحقد التي حفرناها ، لاتنشغلوا بصراعات جيلنا ، فقد باتت من الماضي ، إعذرونا فنحن جيل عانى الويلات ، نحن جيل معطوب ، مقعد ، لاتلتفتوا إلينا ، إنهضوا أنتم ، قلعّوا شوككم بإيديكم ، لاتقتدوا بنا ، تمردوّا على مختلف الصعد ، أنتم لستم أمام معركة سياسية ، وحسب ، أنتم أمام معركة وجود ، ولهذا فأنتم الأولى بالحديث في هذا اليوم ، لإن هذا اليوم يومكم ، سرق منكم في غفلة من الزمن ، وعليكم أن تستعيدوا روحيته ، وجوهره ، فهذا اليوم ، هو يوم الوحدة ، يوم للذين صنعوا الوحدة ، وللذين يبحثون عن الطريق القويم إليها ، وليس يوماً للإنفصاليين ، ليس لأقوالهم ، وليس للرد عليهم …وليس للذين فشلوا في إعادة بناء جمهورية عربية متحدةعصية على الانفصاليين ، لذلك فإن هذا اليوم هو للجيل العربي الجديد  الذي يواجه الأسئلة الصعبة ، ولايتّهرب منها …..

أيها الشباب العربي ….

الوحدة العربية كانت حلماً مشروعاً ، وستبقى ، والجمهورية العربية المتحدة فرضها الشعب العربي في لحظة نهوض ، وشموخ ، والتجربة بالغة الثراء ، والدرس كان بليغاً ، الصفحة الأولى فيه تقول : أن مشروع الوحدة ، ليس بالبساطة ، واليسر الذي توهمناه ، نحن ، في حينه ، دونه عقبات ، وأهوال ، لكن عليكم أن تستدركوا كل الأخطاء التي حصلت ، وأن تسدوا بوعيكم ، وعملكم ، وتصميمكم ، كافة الثغرات ، وأن تتبينوا كيف تبدأون الخطوة الأولى ، وكيف تتمسكون بالبوصلة ، فلا تضلون الطريق مرة أخرى ..

أيها الشباب العربي …

إن عمّكم جمال عبد الناصر كان أبناً باراً لأمته ، كان نموذجاً ، يجب أن يحتذى ، أن يقتدى به ، لا أن يصّنم ، بأي شكل من الأشكال ، وضع هدفاً منذ أن حاصره الصهاينة في فالوجة فلسطين ، وانطلق من فك الحصار هناك إلى فك الحصار عن الشعب العربي في مصر تحريراً ، ودفاعاً ، ومقاومة ، وبناء ، وبات رمزاً للمقاومة ، واستنهاض الأمة العربية ، فبات رمزاً لتحررها ، وتوّج ذلك بميلاد الجمهورية العربية المتحدة ، ومقاومة الانفصال ، بعد ذلك ، وحّول القاهرة إلى قاعدة لحركات التحرر ، ليس في الوطن العربي ، وحسب ، وإنما في مختلف أرجاء العالم  ….

أيها الشباب العربي ….

لقد كان عمّكم جمال عبد الناصر نموذجاً للتمسك بالمبادئ ، والأهداف النبيلة ، كان عصّياً على الاحتواء من قوى الداخل العربي ، ومن خارجه … في البداية حاول “الأخوان المسلمون” في مصر احتوائه ، وعندما استعصى عليهم حاولوا قتله …. كرر الشيوعيون المحاولة بعد ذلك ، وعندما فشلوا حاولوا احتواءه فكرياً ، وفشلوا أيضاً … على الصعيد الدولي تعرّض للمحاولات ذاتها ، حاول قطبي الحرب الباردة ، بالتناوب ، إحتواء عمّكم جمال عبد الناصر ، دون جدوى ، الاتحاد السوفيتي حاول احتواءه ، وكررت الولايات المتحدة ذلك .. لكنه كان دائماً جمال عبد الناصر الوفيّ لأمته ، فاتهمه الأمريكان بالسفوته ، واتهمه السوفييت بالأمركة ، كان عمّكم جمال عبد الناصر منفتح على الإنسانية ، والتجارب الإنسانية ، لكنه لا يقبل التبعية ، يقاوم العدوان ، والاحتواء ، والهيمنة ، وعلى من يريد أن يتعامل معه ، عليه أن يحترم  قضايا الأمة العربية .

أيها الشباب العربي ………

إن عمّكم جمال عبد الناصر دخل معركة الأمة ، من أجل الحرية ، ولم يغادر ساحة المعركة لحظة واحدة ، وبالتالي ، فإن الحكم عليه خارج مقتضيات ساحة المعركة ، هو حكم ظالم ، وفي غير مكانه ، لقد أصاب وأخطأ ، انتصر وانهزم ، تقدم وتراجع ، هادن وقاتل ، لكن على الطريق الذي ينشده لأمته ، لم يحد عنه بوصة واحدة ، ويصدق فيه قول أحد أجدادكم العظام ” ليس من طلب الحق فأخطأه ، كمن سعى إلى الباطل فأدركه ” ، وعمّكم جمال عبد الناصر ، أيها الأبناء ، كان على طول الخط قاصداً الحق العربي ، أصابه أحياناً ، وأخطأه أحياناً أخرى ، لكنه لم يحد عنه أبداً ، بعكس أولئك الذين سعوا ، ويسعون إلى الباطل ، فأدركوه ، ويدركونه ، حتى الآن … هذا هو جوهر الموضوع ، وما عدا ذلك مجرد تفاصيل .

أيها الشباب العربي ………..

ليكن هذا اليوم ، يوم ميلاد الجمهورية العربية المتحدة ، يوماً للإنطلاق إلى المستقبل المنشود ، وليس مجرد يوم للذكرى ، يريدونكم أن تبقوا غارقين في الماضي ، وفي التفاصيل ، وفي ما حدث ..لاتستكينوا ، ولوّ وجوهكم شطر المستقبل ، فساحة النضال ، والفعل ، والممارسة هي الحاضر ، الواقع المعاش ، كقاعدة للانطلاق إلى المستقبل المنشود ، غادروا ساحات داحس والغبراء ، وساحات صفين ، والجمل ، وكربلاء ….

أيها الشباب العربي ………….

المسألة الآن ، كيف تتعاملون مع الواقع الراهن ؟ ، ومن أين تبدأون الإنطلاق باتجاه جمهورية عربية متحدة جديدة حدودها حدود الأمة بين المحيط والخليج … تشمل أبناء الأمة جميعاً مواطنين أسوياء ، متساوين في الحقوق ، والواجبات ، يتمتعون بكامل الحقوق الأساسية ، وبالعدالة ، والمساواة  ….

أيها الشباب العربي ………….

كنت قد حزمت أمري أنني في هذا العام سأفرش لكم بساط الثلاثاء بالورود ، والرياحين ، وسأكتفي بعبارة واحدة تلون هذا البساط تقول :

“أيها الشباب العربي استنفروا كل طاقاتكم كي تكونوا بخير في الأعوام القادمة “

ثم سأغني لكم رغم حشرجة صوتي :

وحدة مايغلبها غلاب …..

أنا واقف فوق الأهرام وقدامي بساتين الشام ….

عرف الشعب طريقه وحّد الشعب بلاده ………..

يابلادي لاتنامي وادفعي الصف الأمامي ……….

وبعض الغناء بكاء…………….

دمشق : 22 شباط – فبراير – 2010

حبيب عيسى

أضف تعليق