جلاء الاستعمار عن الأجزاء خطوة على الطريق :الوحدة العربية هي الطريق الوحيدة إلى الحرية

” مازلنا في رحاب ذكرى جلاء جيوش الاستعمار الفرنسي عن سورية ، وكذلك ذكرى ميثاق 17 نيسان “أبريل” الذي أعلن “جمهورية عربية متحدة” لم تر النور … لكن منذ الجلاء ، مروراً بميثاق المتحدة المؤودة ، وحتى هذه اللحظة الراهنة ، أثبتت الأحداث ، وسقوط البدائل ، أن الوحدة العربية هي الطريق الوحيدة إلى الحرية .”
( 1 )
فمنذ أن تحولت الدولة العربية القديمة التي شيّد العرب من خلالها حضارة إنسانية ، ومجتمعاً متقدماً ، إلى سلطنات ، وقبائل ، وعشائر ، وطوائف ..
ومنذ أن تحولت الأمة العربية إلى أجزاء ، وتحولت الأرض العربية إلى نتف ، يتحكم في كل منها ، أمير ، أو سلطان ، أو شيخ قبيلة ، ،أو وال ، إلى آخر الألقاب المستحدثة …!
منذ ذلك الحين ، وموجات الغزو تتدفق على الأرض العربية ، من كل الجهات ، وتعمل فيها فتكاً ، وتخلفاً ، وتخريباً .. تلك الموجات الغازية ، التي بدأها هولاكو ، ومهّد بها ، لمن جاء بعده من أوربيين تحت راية “الصليب” ، إلى صفويين ، وتتار ، وعثمانيين ، تحت راية “الإسلام” ، إلى أوروبيين مرة أخرى تحت راية “الإعمار” ، و”الحضارة” ، إلى صهاينة هذا العصر ، تحت راية “موسى” .. إلى … ؟!! ، والمستقبل ، قد يحمل لنا أشكالاً أخرى من الغزاة ، إذا لم يتقدم الشعب العربي ، ليقطع مسيرة التخلف ، هذه ، ويتصدى لمسؤولية صياغة المستقبل العربي ، بطريقة حضارية جديدة .. بملامح متميزة .. بعقل تنيره المعرفة ، والعلم ، وبعمل جاد ، قادر على التغييّر ، والبناء .
لقد مر النضال العربي الوحدوي ، بثلاثة مراحل ، سعياً وراء تجسيد إرادة الأمة ، في إقامة الدولة العربية الواحدة :
( 2 )
* المرحلة الأولى :
ويمكن اعتبارها امتداداً لمسيرة التخلف العربي ، التي بدأت يوم أن تفككت أوصال الدولة العربية الأولى .. تلك الدولة ، التي كانت قد تكونت نتيجة لثورة النبي العربي محمد بن عبد الله ، تفككت إلى ممالك ، وإمارات ، و مشيخات ، وبدأت رحلة العودة ، نكوصاً ، إلى العشائرية ، والقبلية ، والإقليمية ، والطائفية التي كانت سائدة قبل الإسلام ، وتمكنّ بعض شيوخ الإسلام ، الذين تحولوا إلى كهنة ، من إغلاق باب الاجتهاد ، واستخدام “الدين” ، كعامل تشتيت ، وتفرقة ، واقتتال بين العرب ، بعد أن كان عامل وحدتهم الأساسي ، فارتفعت بذلك أصوات الطائفية ، والعشائرية ، والمذهبية ، وطغت تلك الأصوات على الوجود القومي ، للأمة ، كل ذلك مكنّ الغزاة من احتلال أرضنا ، والهيمنة على وجودنا مرة أخرى ، بعد أن كان “العرب” ، قد حطمّوا مصادر المنعة ، والقوة في حضارتهم ، ودمرّوا وحدتهم بأنفسهم ، قبل أن يجهز الغزاة على ما تبقى منها .
واستمرت مسيرة التخلف ، هذه ، بشكل أو بآخر ، واستمر تدفق الغزاة على أرضنا من أول هولاكو التتري ، إلى آخر جمال باشا العثماني .
وفي بدايات هذا القرن ال20 ، وبالتحديد ” نهاية الحرب العالمية الأولى ” تقدم المنتصرون الأوروبيون لاقتسام ما تبقى من تركة الرجل العثماني ، المريض ، في الوطن العربي ، بعد أن كانوا فد استعمروا أجزاء عربية كثيرة قبل ذلك .
وللوطن العربي إغراءات كثيرة ، بالنسبة للمستعمرين الجدد ، فرائحة الزيت الضروري لصناعتهم ، ونهضتهم ، تزكم الأنوف ، في الأرض العربية ، والموقع الجغرافي الهام استراتيجياً ، وعسكريا متوفر في هذه الأرض ، والخامات ، والمورد الأولية ، والثروات الطبيعية ، بكل أشكالها متوفرة ، بغير حدود ، والأهم من ذلك كله ، أن التخلف العربي ، الذي يسمح لهم باستغلال ذلك ، ودون ثمن يذكر ، متوفر أيضا ً .
وللغزاة الجدد طرقهم الجديدة أيضاً ، في الاحتلال ، لهم طرقهم العصرية ، بالإضافة ، إلى أن أهمية هذه المنطقة العربية تتطلب منهم وضع خطط إستراتيجية بعيدة الأمد ، للبقاء على هذه الأرض تحت السيطرة … فتنادوا جميعاً إلى اجتماع سري ، رغم تباين المصالح فيما بين بعضهم البعض ، ووضعوا خارطة الوطن العربي على طاولة مستديرة ، فيما بينهم ، وأخرجوا خناجرهم المسمومة ، ليقطعّوا الجسد العربي الممدد أمامهم ، وليرسموا عليه ملامح التخلف ، والذل إلى أمد بعيد ، وكانت النتيجة تقسيم الوطن الواحد ، إلى أقطار ، أو أقاليم ، أقام عليها الاستعمار “دولاً” ، فأصبحت وحدات سياسية ، وبعض تلك “الدول” لا تقوم حتى على ” إقليم ” بمعناه الأصيل ، لأن أهواء المستعمرين ، لم تكن تتفق دائماً مع الطبيعة الجغرافية . فجاءت الحدود خطوطاً هندسية ، رسمت على الخرائط في أكثر الأحيان .
وكان تفتيت الأمة العربية إلى “شعوب” معزولة ، ومحصورة داخل حدودها السياسية ، هو الضمان الأقوى ، لتبقى عاجزة عن مواجهة الوجود الاستعماري ، بقوة موحدة تنهي سيطرته ، وكان المصدر الأساسي للقوة ، والمواجهة ، هو التحام الجماهير العربية ، ووحدة انتمائها القومي .
وضمن مخطط تفتيت الأمة ، هذا ، رسمت الحدود ، وأقيمت أكشاك الجمارك ، وقوات الأمن عليها ، وتوجّت المرحلة كلها ، بإقامة السرطان الصهيوني ، في القلب العربي ، ليكون حارساً لذلك كله ، وانقلبت “دول التجزئة” إلى مدارس ضخمة لمحاربة القوى القومية العربية ، يتولى المستعمرون أنفسهم ، وضع برامجها ، واصطناع عملاء ، وأساتذة ، ومعلمين ، وتلامذة لها ، ورصدوا حتى العروش مكافأة للمتفوقين ، والغاية من ذلك كله كانت اختلاق مضمون اجتماعي ، وفكري ” للإقليم الدولة” وتنميته على حساب المضامين الاجتماعية ، والفكرية لوطن الأمة ، وللقومية العربية ، من أول محاربة اللغة العربية ، إلى آخر اختلاق أبطال ” قوميين ” لاختلاق أمم موهومة استناداً إلى حضارات قديمة سادت ، وبادت في المراحل التاريخية لتكوين الأمة العربية ، تحت أسماء الآشورية ، والفينيقية ، والفرعونية ..
( 3 )
* المرحلة الثانية :
ويمكن اعتبارها ردة فعل الجماهير العربية ، على كل المآسي السابقة .. فكل محاولات الغزاة لخلق ” الإقليمية الدولة ” ، كنقيض ” للقومية العربية ” بحيث يتحول ، بها ، الولاء من الأمة ، إلى ” القطر” ، أو ” الإقليم ” ، أثبتت عقمها ، لأن العدوان ، لا يمكن أن يغيّر في نصف قرن ، ما صنعه الإنسان العربي عبر التاريخ ، خلال عشرات القرون ، فالأمة العربية ، ككل ، لم تقبل المصير الذي أراده المستعمرون ، لها ، واستمرت المعارك التحررية القومية ، كما أن سبق التكويّن القومي – في الزمان – على العدوان الاستعماري ، حصن الوجود القومي العربي ضد التجزئة ، وأصبح مستحيلاً إعادة الأمة إلى أطوار من التكوين الاجتماعي ، تجاوزتها فعلا .
ويمكن اعتبار مأساة 1948 بداية لهذه المرحلة ، فخلال محاولات الإقليمية “الدول” الدفاع عن الوجود القومي العربي في فلسطين العربية ، تعرّت الإقليمية “الدول” ، تماماً ، وأثبتت عجزها ، ليس في الدفاع عن الوجود القومي العربي ، وحسب ، وإنما أثبتت عجزها في بناء التقدم داخل أقاليم دولها ، وتبيّن بشكل واضح ، لكل الجماهير العربية ، ما تعنيه التجزئة من تخلف ، وهزائم ، وذل ، وانحطاط .
( 4 )
لذلك بدأت الجماهير العربية تبحث عن طريق آخر ، لتحررها ، وعبّرت عن انتفاضتها هذه ، بعدة انجازات ، ومؤشرات واضحة ، يمكن القول ، أن أبرزها ، ما يلي :
 في مواجهة الحركات الإقليمية ، والإيديولوجيات التي تتنكرّ لوجودنا القومي العربي ، وتكويننا الحضاري ، تداعت الجماهير العربية إلى تنظيم قومي للثورة العربية يتجاوز كل الأطر الإقليمية المرسومة ، فالتجزئة غير مشروعة موضوعياً لتناقضها مع وحدة الوجود القومي ، وهي غير مشروعة سياسياً لأنها ثمرة عدوان غير مشروع ، وقد عبرت الجماهير العربية عن ولائها القومي العربي بأشكال عديدة ، كان أبرزها الالتفاف حول حزب البعث العربي الاشتراكي ، كحزب قومي عربي يرفض الإقليمية ، وكحزب اشتراكي يرفض الاستغلال ، وكحزب مناضل من اجل الحرية ضد كل أشكال العدوان الخارجي ، والاستبداد الداخلي ، وقد بلغ التفاف الجماهير العربية حول الحزب في تلك المرحلة حداً تجاوزت معه تلك الجماهيرية تصور قيادة الحزب نفسها ، وقدرتها على تنظيمها .. !
 في مواجهة عروش الخيانة الإقليمية فجر الضباط العرب الأحرار الذين عاشوا مأساة 1948 في فلسطين ، وتبينوّا من خلالها أن النضال القومي هو الطريق الوحيد إلى الحرية … فجّر هؤلاء ثورة 23 تموز وأتت هذه الثورة بجمال عبد الناصر ، ليكون أول حاكم من أصل عربي لمصر منذ أيام الفراعنة الأوائل ، وناضلت هذه الثورة بقيادة هذا المناضل الفذ من أجل توضيح الوجه العربي القومي لرأس العقاب العربي في مصر ، والذي يمتد جناحاه بين المحيط والخليج .
 في مواجهة فرنسّة الجزائر ، وجد الثوار العرب هناك قاعدة لانطلاقتهم في القاهرة ، فشكلوّا فيها قيادتهم ، وباشروا حربهم التحريرية التي ساهم فيها شباب عربي من مختلف أرجاء الوطن العربي الكبير حتى تكللتّ أخيراً بالنصر على المستعمرين .
 في مواجهة 80 ألف جندي انكليزي على ضفتي قناة السويس بدأ المواطنون العرب حرباً فدائية اضطرت البريطانيين إلى الرحيل عام 1954 .
 في مواجهة احتكار السلاح ، والعلاقات المقطوعة مع المعسكر الاشتراكي تم توقيع أول اتفاقية عربية لشراء السلاح من الدول الاشتراكية ، وبدأت العلاقات تتعمّق بين تلك الدول ، وحركة التحرر العربية .
 في مواجهة الاحتكارات ، والعمل على استعادة الثروات العربية ، تم تأميم قناة السويس وواجه الشعب العربي كله ، وفي جميع المواقع العدوان الثلاثي على بور سعيد ، فتجاوز بذلك جميع الحكومات الإقليمية العربية .
 في مواجهة محاولات ضم “المنطقة العربية” إلى الأحلاف الاستعمارية ، وميلاد حلف بغداد مع تركيا وإيران ، كتعبير عن ذلك ، وقفت الجماهير العربية موقفاً صلباً ، أصبح معه من المستحيل على أحد من الحكام العرب أن ينضم إلى هذا الحلف ، فحوصر الحلف في بغداد ، إلى أن تمكنت الجماهير العربية من إسقاطه في بغداد ذاتها عام 1958 .
 في مواجهة الحشود التركية على سورية عام 1957 لإخضاعها لمخططات الأحلاف ، اشترك الجيش العربي القادم من مصر ، مع الجيش العربي السوري في تكوين سد منيع ضد كل محاولات التهديد بالغزو ، توّج بقيام الجمهورية العربية المتحدة .
 في مواجهة الاستعمار البريطاني المتواجد بشكل مباشر في الخليج ، والجنوب العربيين ، بدأت ثورة مسلحة هناك بمساندة جميع فصائل قوى الثورة العربية .
( 5 )
المرحلة الثالثة :
تتويجاً لهذه الانتصارات كلها ، والتي حققتها حركة الجماهير العربية في وقت فقد فيه المستعمرون مواقع عديدة لهم في الأرض العربية ، وأصبحت المواقع المتبقية لحسابهم محاصرة بالجماهير العربية تمهيداً لإسقاطها .. في هذا الوقت ، وبضربة واحدة ألغيت الحدود الإقليمية بين سورية ومصر ، وخرجت الجماهير العربية داخل دولة الوحدة ، وخارجها ، تحيط هذه الوحدة ، بالتأييد ، فكانت “الجمهورية العربية المتحدة” بذلك ، أكبر من حدودها الإقليمية حجماً ، ومقدرة … فسقط حلف بغداد بعد ذلك ، بأشهر قليلة ، وشهدت الساحة العربية حركات جماهيرية واسعة النطاق ، وتعززّت الثورة ضد المحتلين في المناطق العربية ، التي كان الاستعمار يحكمها بشكل مباشر … وتمكنت الجمهورية العربية المتحدة أن تعيد صياغة الحياة على أرضها العربية المطهّرة من الإقليمية ، فصدرت قوانين الإصلاح الزراعي ، ووجهت ضربة قوية للإقطاع ، والرأسمالية ، ووضعت خطة السنوات الخمس ، لتعمير الوطن ، وبدأت الأيادي العربية تشييد السد العالي على النيل في الإقليم الجنوبي ، وبدأت دراسة إقامة سد عال آخر على الفرات في الإقليم الشمالي ، وصدرت القوانين الاشتراكية لأول مرة في الوطن العربي .
في هذا الوقت كان المتضررون من الوحدة العربية محلياً ، وعالمياً ، قد أعادوا ترتيب مخططاتهم بعد أن كانت دولة الوحدة قد قلبت تلك المخططات على رؤوسهم ، وتمكنوّا في 28 أيلول – سبتمبر – 1961 من الإجهاز على الجمهورية العربية المتحدة ، وفصل إقليمها الشمالي .
لكن ، وحتى نضع الأمور في نصابها الحقيقي ، لا بد من القول ، أن تلك المخططات المعادية ، ما كان ليكتب لها النجاح في ضرب دولة الوحدة العربية ، لولا بعض الثغرات التي ظهرت داخل البنيان الوحدوي ذاته ، والتي استغلها الأعداء إلى أقصى حد ، ونفذوا منها إلى ضرب الجمهورية العربية المتحدة .
ورغم أنه قد قيل الكثير عن أخطاء دولة الوحدة ، وسبب فشلها ، فإن السبب الرئيسي في هذا الفشل يعود إلى عجز قيادتها عن تنظيم الجماهير العربية داخل دولة الوحدة ، وخارجها لتكون درعاً واقياً لها ، وهذا العجز أدى إلى بقاء هذه الجماهير متسيّبة ، لا يجمعها غير الحماس ، والولاء القومي .. لكن ، هل يكفي الحماس في حماية دولة الوحدة العربية ، من عتاة الإقليميين ، والطامعين في ضربها .
( 6 )
إن الجمهورية العربية المتحدة لم تكن تعني بالنسبة للجماهير العربية مجرد دولة إقليمية جديدة تضم سورية ، ومصر ، وإنما كانت تعني بالنسبة لهذه الجماهير : دولة نواة ، لوحدة عربية شاملة ، بين المحيط والخليج ، وكانت قيادة الجمهورية العربية المتحدة مطالبة أن تعمل على أن تنظم هذه الجماهير نفسها في إطار تنظيمي واحد محدد الاتجاه ، والمنطلقات ، والغايات ، لإسقاط كل الحدود الإقليمية في الوطن العربي ، بعد أن بات واضحاً أن “الدول الإقليمية” لا يمكن أن تتعايش مع هذه الجمهورية العربية المتحدة .
– فإما أن تتمكن دولة الوحدة العربية من إسقاط الإقليمية ، وإقامة الجمهورية العربية المتحدة بين المحيط ، والخليج .
– وإما أن تتمكن الدول الإقليمية من إسقاط دولة الوحدة في إطارها الضيق بين سورية ومصر .
لا خيار في ذلك ، لأحد .. ولعل ما تكشفّ حتى الآن عن تلك الفترة التاريخية ، يوضح بكل جلاء أن المؤامرات ، لإسقاط الجمهورية العربية المتحدة ، قد بدأت منذ ولادتها .. بل قبل ذلك .. منذ بداية التفكير ، لإقامتها .
وبذلك يمكن القول أن غياب الجماهير العربية المنظمة ، داخل حدود الجمهورية العربية المتحدة ، وخارجها أدى إلى ارتفاع مكانة البيروقراطية ، والانتهازية داخل دولة الوحدة ، وهذا أدى بدوره إلى أخطاء ، وثغرات داخل بنيان دولة الوحدة .. تمكن الإقليميون ، والأعداء من استغلالها ، وضرب دولة الوحدة ، النواة ، من خلالها .
المهم ، أن أنصار التخلف ، والتجزئة حققوا نصراً كبيراً في 28 أيلول – سبتمبر – 1961 .
ووقف الإقليميون ينفشون ريشهم في الساحة العربية ، وهم يرددون :
– ألم نقل لكم : إن الوحدة العربية ، لا يمكن أن تنجح ، وأنها مجرد حلم شاعري ، أو شوفيني عنصري .. في أحسن أحوالها .. ؟ ! ، ويتابعون :
– ثم ، أرأيتم ماذا فعلت دولة الوحدة .. و يوغلون بعد ذلك ، بتشريح جثتها .. ، يبحثون بين أحشائها عن الأخطاء التي حصلت ، والتي يمكن اختلاق وقوعها .. ويسلطون عليها مجاهرهم المكبرة إلى مئات المرات ، ثم يتخذون من كل ذلك دليلاً على فشل الوحدة كفكرة من الأساس .. !
ويصورّون ، بعد هذا ، وقبله ، مرحلة الجمهورية العربية المتحدة ، وكأنها مرحلة الأخطاء ، والظلم ، والإرهاب ، والانحرافات ، كأن الحكومات التي كانت قائمة قبل 22 شباط – فبراير – 1958 ، أو الحكومة الانفصالية التي أعقبت 28 أيلول – سبتمبر – 1961 كانت أكثر تقدمية ، وعدلاً .. ؟ !!
وللأسف الشديد ، فقد انجرف بعض القوميين العرب إلى الشرك الإقليمي .. وشاركوا في تشريح جثة الوحدة ، وتضخيم أخطائها .. لكن الجماهير العربية ، وبحسها السليم ، كانت تعرف ما وراء هذه الحملات المضللة ، فإن أحداً ، لا ينكر حدوث بعض الأخطاء في ظل دولة الوحدة .. لكن أن يبرر الانفصال بسبب هذه الأخطاء .. فهذا ما لا يمكن قبوله … فالانفصال ، لا يمكن أن يكون إلا تراجعاً ، وتخلفاً . ورغم كل الأخطاء التي وقعت فإن مرحلة دولة الوحدة الأولى تعتبر مرحلة متقدمة تاريخياً ، ومضيئة ثورياً ، واجتماعياً .
( 7 )
بكل الأحوال ، ومهما قيل عن دور الإقليميين ، ودعاماتهم العالمية في محاربة دولة الوحدة .. فإن السبب الرئيسي ، لفشل الجهود الجماهيرية ، في تحقيقها ، يعود إلى قصور التيار القومي التقدمي ذاته .. فكرياً .. وتنظيمياً . . !
فقد كان من المتوقع ، والواجب ، أن يتنادى العرب القوميون التقدميون ، إلى إعادة النظر في خط سيرهم ، ودراسة واقعهم ، ومن ثم الوصول إلى حل ، لمشاكلهم الفكرية ، والتنظيمية .. تلك المشاكل التي تسبّبت في هزيمتهم ، وتشتتهم ، وانتصار الإقليميين عليهم ، وعلى دولتهم الوحدوية الواعدة .
لكن الذي حصل ، هو أن التيار القومي التقدمي ، وجد نفسه بعد كارثة الانفصال محاطاً بالإقليميين الذين اسقطوا الوحدة ، وتسللوا إلى داخل التيار القومي ذاته .. ليحدثوا أكبر عملية تخريب فكرية ، وتنظيمية ، شهدها تاريخنا الحديث ، وكانت النتيجة الحتمية ، لكل ذلك ، اختلاط القوى في الساحة العربية ، إلى الحد الذي لم يعد معه ممكناً فرزها … فإذا بنا أمام فصائل ” قومية ” لكنها تنطلق من منطلقات إقليمية ، أو أمام فصائل قومية ترفض أن يكون لها منطلقات أصلاً ، أو أمام قوى إقليمية تلبس أثواب القومية العربية الفضفاضة ، أو أمام قوى اشتراكية لكنها تحارب الوحدة ، أو قوى وحدوية تحارب الاشتراكية . إلى أن أثبتت الأحداث أن هذه القوى ليست وحدوية ، وليست اشتراكية ، وإنما قوى إقليمية تتستر حسب – الطلب – تحت الرايات الملائمة لتخريب التيار القومي العربي .. ، وكانت النتيجة الطبيعية لكل هذا الخليط العجيب ، اقتتال الفصائل القومية العربية ، فيما بينها ، وتراكم التناقضات ، وتراشق التهم ، والشتائم ، كل ذلك مهد لنكسة 5 حزيران – يونيه – 1967 ، التي ، ما كانت لتحدث ، لولا أن يكون التاريخ العربي ، قد شهد قبل ذلك ، يوم 28 أيلول – سبتمبر – 1961 .
( 8 )
وازدادت القوى الإقليمية شراسة بعد الهزيمة ، وأفصحت عن نفسها ، وبدأت معركة مكشوفة ، ودون خجل هذه المرة ، ضد النضال الوحدوي العربي الاشتراكي .. حتى وصل بنا الأمر أخيراً إلى نكران الوجود القومي للأمة العربية علانية ، وأننا ما زلنا في طور التكون ، الذي قد يكتمل ، وقد لا يكتمل .. !
– ونحن قد نفهم أن تحارب الوحدة العربية ، من قبل الذين يدعون إلى إلغاء التاريخ العربي ، للعودة إلى حضاراتهم القبلية العريقة التي بدأ التاريخ ، بها ، وتوقف عندها حسب رأيهم …!!.
– ونحن نفهم أن تحارب الوحدة من قبل الانتهازيين ، والنفعيين الذين يجدون في ظل الإقليمية أماكن عديدة لهم …!!.
– وأخيراً قد نفهم أن تحارب الوحدة من قبل الطامعين في ثروات بلادنا ، وهم لذلك مع التجزئة التي تعني بالنسبة لهم استمرار تخلفنا ، وبالتالي استمرار استغلالهم لثرواتنا …!! . قد نفهم ذلك كله ، دون عناء .. !!
لكن الذي يحتاج إلى توضيح ، هو أن تحارب الوحدة العربية ، باسم الاشتراكية ، ومن قبل هؤلاء الذين يغدقون على أنفسهم ألقاباً ثورية ؟ .
– ثورية ، من ، هذه التي تحارب الوحدة العربية ؟!
– واشتراكية ، من ، هذه التي هي ضد الوحدة العربية ؟ !
– ثم ألم تثبت التجربة ، أن لا اشتراكية بدون وحدة عربية ، ولا وحدة عربية بدون اشتراكية .. ؟ !
– إذا كنا اشتراكيين .. ألسنا مطالبين بتحديد المجتمع الذي يجب أن نبني عليه اشتراكيتنا ؟ ، وما هي حدود هذا المجتمع ؟ ، وأي جماهير كادحة نريد أن نحررها ، لتبني الاشتراكية ؟ ، وهل يمكن أن تكون الحدود التي رسمها المستعمر ظلماً ، وعدواناً على أرضنا العربية ، هي حدود لمجتمعات الاشتراكية ، والتقدم .. ؟
( 9 )
أسئلة كثيرة .. ، ولا أعتقد أن الإجابة عليها ، عسيرة .. !!
فقد كشفت التجربة لكل من يريد أن يسمع ، ويرى أن المستعمر الذي رسم حدود دولنا الإقليمية ، كان يعرف ما يريد ، ويعرف كيف يجعل من هذه الحدود عائقاً ضد كل تقدم حقيقي في المجتمع العربي ..
لقد أثبتت التجارب القريبة ، والبعيدة ، وأثبتت نتائج حرب 6 تشرين – أكتوبر – أننا كأمة عربية – مكتملة التكوين – تتحدد مشاكلنا ، بحدود وطننا العربي ، كله .
وأن الحل لهذه المشاكل لا بد أن يكون حلاً قومياً عربياً.. وهذا يفرض على مختلف القوى التقدمية العربية تعميّق الخط الوحدوي الاشتراكي ، وتأصيل سير هذا الخط ، باتجاه تحقيق دولة العرب الوحدوية الاشتراكية الديمقراطية . وذلك من أجل أن نكون أكثر مقدرة على الحياة . وأكثر قدرة على البناء ، والتقدم ، وعلى دخول عتبة القرن الواحد والعشرين . وأكثر مقدرة على مجابهة الأعداء ، والمستبدين ، والطامعين والغزاة . (حبيب عيسى – جريدة الثورة – دمشق – 31/1/1974)
( 10 )
لعله من غير المناسب أن نعيد نشر حديث مضى عليه 36عاماً ، لكنني ، وبأمانة ، اتجهت إرادتي , وقد آليت على نفسي تسليم ملفاتي كاملة إلى الجيل العربي الشاب : أن أضع كافة أوراقي بين يديه ، رغم قناعتي بأن الكثير من الأفكار ، والرؤى ، قد تجاوزها الزمن ، وأن الظروف الموضوعية الراهنة لم تعد تطيقها ، لكنني ، وفي الوقت ذاته ، أرى أنه من الضروري وضع الجيل العربي الشاب في الأجواء التي كانت سائدة في المراحل التاريخية المتعاقبة ، وكيف كنا نتعامل معها ، وكيف تطورت أفكارنا ، وأين كان الخطأ ، وأين الصواب ، ولعل ذلك في منتهى الأهمية ، لأن التطور الاجتماعي يتم بالجدل الاجتماعي ، وعن طريق التراكم ، وبالتالي فإن غياب التراكم يؤدي إلى تبعثر الجهود والمراوحة في المكان أو التراجع ، والتخلف ، فتوافر مواد البناء الجيدة على الأرض لا يعني شيئاً ، إلا بتكوين الطاقم القادر على إشادة البناء ، بوضع تلك المكونات في مكانها الصحيح وفق مخطط صحيح مدروس يحدد مواصفات الأساس ، مع درجة أمان مناسبة ، ليكون حاملاً للصرح المراد إشادته ، ونحن نرى أن عوامل : الاحتلال ، والهيمنة ، والنهب ، والفساد ، والاستبداد ، والقمع ، والاستغلال …. قد ألقت بظلالها الكثيفة على المشهد العربي مما أدى إلى انقطاع التواصل ، والحوار ، والجدل بين مكونات المجتمع العربي ، مما عطلّ تفعّيل قانون الجدل الاجتماعي ، وبالتالي تصدّع مشروع النهوض ، والتطور ، والتقدم ، والتنوير ، في الوطن العربي ، لهذا ، فإن استئناف مشروع النهوض ، والتنوير في الوطن العربي ، يتوقف على استئناف حوار جدي مفتوح حول كافة القضايا المطروحة ، وحول كافة المسائل التي جرت ، والتخلي نهائياً عن النفي ، والإقصاء ، والاستئصال ، ومن ثم قبول الرأي الآخر ، والقبول بتعدد المسارات إلى النهوض ، وعدم الاحتكار ، والتسابق باتجاه المستقبل ، وليس باتجاه النكوص ، وحتى ننتقل من التنظير إلى ساحات الفعل ، والعمل ، لابد من إعادة تفعّيل كافة مؤسسات شد النسيج الاجتماعي ، وتقوية جهازه المناعي ، من أول المؤسسات الحزبية الحقيقية الفعّالة ، إلى الجمعيات ، والمنتديات ، والمؤسسات الإعلامية ، وإطلاق حرية الرأي ، والتعبير ، وممارسة النشاط الثقافي ، والفكري ، بشفافية ، وعلنية ، والتحرر من الخوف ، فالحرية تؤخذ ، ولا تعطى ، وبما أن التأسيّس ، لهذا كله ، يبدأ بالحوار ، وبما أن الحوار يحتاج إلى بيئة مناسبة ، فإننا نقترح على الجيل العربي الشاب مشروع نظام تأسيسي لمنتديات حوارية ، ثقافية ، فكرية ، يؤسسها الشباب العربي ، بالمبادرة الذاتية ، كلّ في موقعه ، في المدن ، والبلدات ، والأرياف ، ثم يتم التنسيق بين تلك المنتديات حيث كان ذلك ممكناً لتوسيع دائرة الحوار ، وسنطلق هذا المشروع على بساط الثلاثاء القادم .
حبيب عيسى

أضف تعليق