الخطاب القومي العربي ، التقدمي من التجريد .. الى الواقع الموضوعي …!

على بساط الثلاثاء
78
بقلم : حبيب عيسى
الخطاب القومي العربي ، التقدمي
من التجريد .. الى الواقع الموضوعي …!

 
( 1 )
علينا أن نعترف ، دون مواربة ، أننا ، ونحن على عتبات استئناف مشروع النهوض ، والتنوير ، القومي العربي التقدمي ، نواجه مشكلة مفصلية ، يتوقف على طريقة مواجهتها إقلاع المشروع ، أو تعثرّه ، ولا تكمن تلك المشكلة في مصداقية ، المفاهيم ، والشعارات ، والمواصفات ، والأساليب ، وحسب ، وإنما قبل ذلك ، وبعده ، تكمن المشكلة في استعادة مصداقية المشروع ، عبر المصداقية الذاتية للدعاة الجدد ، من جهة ، وعبر المصداقية الموضوعية للمؤسسات التي يعتمدونها كحامل للمشروع ، من جهة ثانية ، وكذلك عبر التمييّز الواضح ، والبّين بين الانطلاقة الجديدة ، وبين المرحلة التي انقضت ، والتي تمّ خلالها استهلاك ، وتزييّف ، وانتهاك المفاهيم القومية العربية التقدمية ، بارتكاب الأخطاء ، والخطايا ، وحتى الجرائم ، وبات ذلك كله تراث من المآسي ينسبونها إلى المشروع القومي التقدمي العربي ، مما أدى إلى انفضاض الحاضنة الجماهيرية العربية عن المشروع ، بل حتى إلى إصابة قطاع واسع من الجماهير العربية باليأس ، والإحباط ، والاستلاب …
وهذا ما يدعونا للقول ، أنه ما لم يتمكن الدعاة القوميون العرب التقدميون الجدد من القطع مع تلك الممارسات ، والمفاهيم السلبية ، فإن المشروع لن يقلع ثانية ، مهما علا الضجيج من قبل الذين مازالوا يجترّون شعارات ، وأفكار ، وتجارب شخصية عن بطولات انتهت صلاحياتها ، وعن أساليب ، وممارسات لم ينتج عنها سوى الفشل ، وعن حركات ، وأحزاب باتت بفعل عوامل عديدة ، ذاتية ، وموضوعية ، مجرد هياكل عظمية مكانها متاحف ، وكتب التاريخ ، وليس الفعل في الواقع الموضوعي الحيّ ، كما أن إلقاء مسؤولية انحسار المشروع القومي التقدمي ، وهزائمه ، على الرجعية ، والإمبريالية ، والصهيونية ، والمؤامرة ، والظروف ، لم يعد مجدياً ، فالحاضنة الجماهيرية العربية لم تنفضّ عن المشروع القومي التقدمي العربي لأنه كان يواجه هؤلاء جميعاً ، ولكن لأن الذين تصدوا لقيادة المشروع لم يكونوا جدييّن في امتلاك الأدوات المناسبة لهزيمة القوى المعادية ، فافتقدوا المصداقية ، والفاعلية ، وانغمسوا في المشاريع الخاصة ، المحدودة ، والفئوية التي أدت من حيث النتيجة إلى فتح الأبواب للمشاريع المعادية ، وليس إلى مواجهتها ، فباتت الشعارات القومية العربية للمقاومة ، والنهوض ، والتحرير ، والتقدم ، مجالاً للتندّر ، والسخرية ، بعد أن كانت تلهب المشاعر العربية من المحيط إلى الخليج ، وترهب القوى المضادة ، وتؤرقهّا …
( 2 )
هذا كله أدى إلى انفراط عقد التيار القومي العربي التقدمي ، وتشتيت كوادره في اتجاهات مختلفة ، والنكوص عن مشروع النهوض ، والتنوير ، أما الذين تمسكوا بالمشروع ، رغم كل ما جرى ، فقد وجدوا أنفسهم فرادى في حالة حصار من أخوة ، ورفاق الأمس ، من جهة ، ومن القوى المضادة للمشروع في الداخل ، والخارج من جهة أخرى ، فقبضوا على المشروع كالقابض على الجمر يرفعون شعاراته ، ويبررّون حتى الأخطاء ، والخطايا التي تم ارتكابها إدراكاً منهم أن المستهدف ليس فلان ، أو علانّ ، وليس الأخطاء ، والخطايا ، وإنما المقصود هو المشروع النهضوي القومي العربي أساساً ، لكن هذا أدى في نهاية الأمر إلى افتراق حاد بينهم ، وبين الواقع ، الذي أمسكت به القوى المضادة لتحركه في الاتجاه المضاد تماماً ، وبات حديث القوميين العرب عن الحرية والوحدة والاشتراكية ، وعن تحرير فلسطين ، وجميع الأراضي العربية المحتلة من المحيط على الخليج ، وعن محاربة مخططات الإمبريالية والصهيونية ، كأنه حديث من عالم آخر لا أثر له في الواقع ، حتى الذين يرددونه لم يثبتوا الجدّية المناسبة التي تضفي على ما يقولون المصداقية الواجبة ، فانفضّت الجموع إلى الملهاة التي يوفرها قصف إعلامي مركز 24/24 من خلال مسلسلات متتالية تبدأ بالفتن الطائفية ، والمذهبية ، والإثنية ، والإقليمية ، ولا تنتهي بالصراعات بين القوى الطامعة في اقتسام الكعكة العربية سواء كانت إقليمية ، أو من وراء البحار ، وتمتد من صرعات الفن المفرّغ من الفن ، إلى معارك الكرة …، واكتملت الصورة الكوميدية ، التراجيدية ، بتصنيع أعداد لا تحصى ممن تم منحهم ألقاب محللين سياسيين ، واقتصاديين ، واستراتيجيين ، يغلفوّن النفاق ، والأكاذيب ، بمصطلحات كبيرة ، ويبيعون الكلام لمن يدفع ، والهدف هو التصويب إلى العقل العربي لإصابته في مقتل ، وهكذا ، فقدت الجماهير العربية حماستها ، وباتت تتهرّب من الكلمات الكبيرة ، ومن الشعارات المشتعلة ، وتترك الشأن لذوي الشأن ، فالسياسة ، ليست لها ، والقرار لأصحاب القرار ، وما تقرره عصابات القرصنة الدولية ، هو القرار ، وما تقرره عصابات الطغيان في الداخل هو القرار ، وباتت الساحة العربية ، تحتشد فيها جيوش من الكلمات ، والمصطلحات التي ترصّ جنباً إلى جنب، أو يلتهم بعضها ، البعض الآخر، وتشكل بمجملها “لغواً” لا طائل ، من ورائه…
ما يعنينا ، هو تلك الأفكار ، أو على الأصح ، كل تلك “السفاسف” ، وهذا “اللغو” ، الذي ينسبونه إلى الفكر القومي العربي، حيث نواجه ، بإصرار مشبوه يدعيّ ، أن الفكر القومي العربي ، لا يتضمن إلا ذلك الذي يدعوّنه ، ثم تكتمل الصورة ، بشلل ، وجماعات ، وأقطاب ، ذات طابع “كاريكاتوري” ، “كوميدي” تنتشر ، في عرض الساحة العربية ، وطولها ، لتبدو ، وكأنها ، هي ، كل ما تبقى من المشروع القومي العربي التقدمي ، ثم تكتمل الصورة ، بجلسات السمر ، والسخرية ، التي يعقدها “الإقليميون ، والطائفيون ، والمذهبيون” ، حول تهافت الفكر القومي ، وعبثية الأفكار القومية العربية ، وضبابيتها.
( 3 )
والحقيقة ، التي يجب الاعتراف بها ، هي ، أن ، ما يبدو على السطح ، يقدم ، لأعداء القومية العربية ، ما ،لا حصر له ، من الشواهد على فشل المشروع القومي العربي ، فنحن ، في عصر خراب فكري ، فعلاً ، لكن ، من الظلم للأمة العربية ، القول ، أن هذه الترهات ، وتلك السفاسف ، هي كل ما تبقى منها ، فهذه الأمة ، موضوعياً ، تعرضّت ، وتتعرض ، لعوامل فناء، وقوى إفناء ، لم تتعرض لها أمة في التاريخ ، على حد علمنا ، فهل يعقل ، أن تكون أمة العرب ، قد قاومت، وبقيت الحياة نابضة في عروقها ، دون الاعتراف ، بأنها تمتلك وسائل دفاع، وقوى حماية ، استطاعت ، أن تمتصّ هذا السيل الجارف ، من الهجمات المعادية ، التي تتالت عليها ، خلال أكثر من ألف عام ، فالأمة العربية ، وبفعل عوامل ذاتية ، وخارجية كثيرة لم يجمعها نظام سياسي موحد ، ورغم ذلك صمدت ، ومازالت تحاول أن تخرج من محنتها ، وتتمسك بهويتها الحضارية .
( 4 )
نقول ، هذا ، ابتداءً ، حتى لا يختلط الأمر على أحد ، وحتى نفرز الغث ، من الثمين ، فالأمة العربية ، وخلال مراحل تطورها، كانت تفرز تحت الأرض، قوى المقاومة ، والتصدي ، فكرياً ، وحركياً ، وفعلياً، وكانت عبر التاريخ العربي، تعرف ، كيف تنجب المناضلين ، وكيف تحصّنهم ، ضد الانتهاز ، والارتزاق ، والنفاق ، فكانوا ، وما زالوا ، الحامل الموضوعي لمشروعها الحضاري الإنساني ، يمتلكون المقدرة دائماً على العمل الصامت في الظروف الصعبة ، حتى يتبادر إلى القوى المضادة ، أن الأمة قد ماتت ، لكن ما أن يعدوّن المراسم للدفن ، حتى يتبيّن لهم أنهم يدفنون أوهامهم ، كان المناضلين العرب ، وما زالوا كالمتصوفين في توحدهم ، بأمتهم ، ومصيرها، ففي الوقت ، الذي كان فيه الأعداء ، يستشرون استبداداً ، وتمادياً ، وقمعاً، كان السطح العربي ،يبدو مكتظاً بقوى هلامية ، لا شكل لها ، ولا حدود ، ولا ملامح ، حتى يخيل للأعداء ، أن الأمة العربية ، قد هزمت ، وقضي الأمر، بينما ، كان الواقع الحقيقي ، للأمة ، ينذر ، بشيء آخر ، فالمناضلون ، وفي ظل الظروف الصعبة ، كانوا يهربون ، من إعلام ، كل ، عصور الانحطاط ، لأن طبيعة النضال ، تتطلب ذلك، هنا ، كان مأزق الأعداء، وهنا ، كان مأزق ، كتبة ، التاريخ العربي ، الذين لم يغوصوا إلى الأعماق ، فسودّوا الصفحات ، عن شخصيات ، لزجة ، زاحفة ، لها صفات الكائنات الحية ، لكنها نادراً ما تقترب من صفات الشخصية الإنسانية. بينما أغفلوا ، البؤر الثورية ، المناضلة ، التي حفظت للأمة ، وجودها ، وهم معذورون ، في هذا، لأن تلك البؤر الثورية ، الفريدة ، كانت عصية على الرؤية ، أغلب الأحيان.
( 5 )
نريد القول، وباختصار شديد، ما نعتبره قانوناً ، وهو ، أن الأمة ، في أيام المحن ، والتهديد الشديد ، لوجودها ، تفرز ، الزبد ، إلى السطح ، الذي يلمع تحت الأضواء، بينما تتماسك خلاياها ، عند الجذور ، وتبدأ بإفراز المضادات الدفاعية ، التي تحفظ الأمة ، وتقلب معادلات الأعداء ، في نهاية المطاف .
وأمتنا ، تعاني من أزمة ، شبه مستمرة ، طيلة ألف عام ، تقريباً، لكنها تقاوم ، عوامل الفناء ، بطريقة تشبه ، الإعجاز. وبقوى ، تحتية ، خفية ، لا تذكرها ، كتب التاريخ ، إلا عرضاً، لكنها ، تتفرّد ، بالتراكم في ضمير الأمة ، وتشكل ، ذلك المارد ، الذي يصمد ، ويصمد، ويتحفذ للانطلاق، وربما نكون ، الآن ، بانتظار ساعة الصفر.
قد يسأل البعض ، ما علاقة ، هذا ، الذي نقوله ، بعنوان هذا الحديث عن أزمة الفكر القومي العربي التقدمي ؟ ، نقول : إن المستقبل العربي في المدى المنظور ، يتوقف مصيره تطوراً وتقدماً ، أو تخلفاً وانحطاطاً على إحياء مشروع النهوض ، والتنوير في الوطن العربي ، وامتلاكه أدوات ، ووسائل ، وإمكانيات تحقيق الارتباط بين الأهداف ، وبين الواقع الموضوعي ، لم يعد كافياً أن نرفع شعار الاشتراكية ، والعدالة الاجتماعية ، وإنما يجب أن يرتبط الهدف بتحديد الطريق لتحقيق ذلك في الواقع ، كيف ؟ ، ومتى ؟ ، ومن الذي سيحقق ؟ ، وكيف تنتظم القوى المعنية بالتغيير لتحقيق تلك الغاية ؟ ، وكيف يكون مشروع النهوض القومي حاملاً فعلياً لتحقيق تلك الغاية ؟ ، ولم يعد كافياً أن نرفع شعار الحرية ، وإنما لابد من تحديد مفهوم الحرية ، وعلاقة التحرر من الغزو الخارجي ، بانتزاع الحرية من الطغيان ، والاستبداد الداخلي ؟ ، وكيف يمكن تحقيق ذلك ، بمن ؟ ، وبمواجهة من ؟ ، لم يعد كافياً رفع شعار الوحدة العربية ، وإنما لابد من الربط بين مشروع الوحدة وبين الحياة اليومية للمواطنين ، وكيف تكون الوحدة طريقاً لإشباع حاجات الناس ، وكيف ترتبط التجزئة بالتخلف ، والفساد ، والطغيان ، وتهديد النسيج الاجتماعي ، والاستغلال ، وانعدام إمكانيات التنمية ، والتطور ؟ ، لم يعد كافياً توجيه الشتائم للامبريالية والصهيونية ، وتحميل مسؤولية الهزائم للمؤامرة ، وللرجعية ، وللنهب المنظم للثروات العربية ، وإنما لابد من الإجابة على أسئلة بالغة الدقة ، كيف نواجه الأطماع ؟ ، كيف نرد العدوان ؟ ، ما هو موقع الأمة العربية في هذا العالم ، وكيف تستعيد دورها الحضاري ؟ ، مع من ؟ ، وضد من ؟ ، ولم يعد كافياً رفع شعار تحرير فلسطين ، وشرح الحق العربي فيها ، والعدوان الصهيوني عليها ، وإنما لابد من كشف علاقة المشروع الصهيوني بالعدوان على الأمة العربية من المحيط إلى الخليج ، فالمشكلة ليست في حدود المستوطنات الصهيونية ، وإنما في وجودها ، ولو في مستوطنة واحدة في فلسطين ، فقضية فلسطين ، قضية محورية ، في الظرف الراهن ، لكل الأطراف:
قوى السطح الحاكمة ، والمحكومة ، في الوطن العربي ، قوى الزبد ، القوى التي تملأ شاشات ، وسائل الإعلام ، وميكرفوناته ، وصحفه ، وأغلب كتبه ، تعلن أن مصيرها ، يتقرر على ساحة فلسطين، فهذه القوى المستلبة، لم يعد لديها ما تقدمه، وما تفعله ، إلا أن، تحّل “المشكلة الفلسطينية”، أي ، “تصفية القضية الفلسطينية” ، أي ، وفي أحسن الأحوال ، أن تقايض بعض فلسطين ، ببعضها الآخر ، وهذا نصرها لكن ليس على الصهيونية ، وإنما على الأمة العربية .
وإذا فشلت ، في هذا ، فإنها ستفقد مصداقيتها ، أمام العالم الذي صّنع لها “دولاً” ، وسلطات ، وستفقد بالتالي مبرر وجودها….!
أما أصحاب مشروع النهوض والتقدم القومي العربي ، فإن معركة فلسطين ، بالنسبة إليهم ، معركة حاسمة ، هي الأخرى :
لأن استقرار الصهيونية في فلسطين ، ولو في قرية واحدة ، لا يعني مجرد الاستقرار الجغرافي ، وإنما يعني ، قبل ذلك ، وبعده ، تغلغل الصهيونية ، في العقل العربي ، في الأرض العربية ، في فرض استقرار أوضاع التجزئة ، والتفتيت في طول الأرض العربية ، وعرضها.
( 6 )
هكذا كانت ، هذه المقدمة ، ضرورية ، لفرز المواقف، ولتحديد عن أي مشروع نهضوي نتحدث ؟ ، وعن أي فكر قومي ؟ ، حتى لا يختلط الأمر على أحد، فلدينا رغبة ، لا حد لها ، في تسمية الأمور ، بمسمياتها، ذلك ، أن مرحلة تشويه الفكر القومي العربي التقدمي ، والتعتيم على الأصيل ، العلمي ، المحدّد منه، يجب أن تسقط كخطوة أولى .
وإذا ، كنا ، نعترف، ولو من باب القسوة على النفس ، فنقول ، أن الفكر القومي العربي ، السائد ، يمرّ في أزمة حقيقية ، فإننا نقول ، في الوقت ذاته ، أن تلك الأزمة ، جاءت إليه من المدارس الفكرية المعادية للوجود القومي ، للأمة العربية ، تسللتّ إلى الفكر القومي العربي في ظروف معقدة ، وبالتالي ، فإن هذا “الفكر” ليس فكراً قومياً ، وليس فكراً عربيا، وإنما أفكار معادية للوجود القومي العربي ، مغلفة ، “بتلبيسة” قومية ، ليصبح ، مقبولاً جماهيرياً ، وبالتالي ، فإنه لا يحق ، لأحد ، على الساحة العربية ، أن يتهجم على الوجود القومي للأمة, من خلال نسبة تلك “الأفكار” ، والممارسات إلى التيار القومي العربي ، فتلك الأفكار ، لا علاقة لها ، إطلاقاً ، بتلك الأمة , والترهّات التي طفت على السطح ، ليست “أفكاراً” قومية، وإنما أفكاراً معادية للوجود القومي ، تغلغلت في المدارس القومية ، لتجّوفها ، وتلتهم أهدافها ، ولهذا الوضع ، أو لهذه السمة التي صبغت “الفكر القومي” السائد ، أسباب تاريخية ، تتعلق بالنشأة ، والمعارك المتلاحقة على الساحة العربية …
( 7 )
فالتيار القومي العربي ، ومنذ بدء تشكله ، حركات ، وقوى ، وأحزاب ، وانقلابات ، وجد نفسه ، ينمو ، في وسط جماهيري مؤيد ، ومناصر له ، وهذا الوضع ، رغم ، إيجابياته الكثيرة ، أدى إلى نتيجة سلبية ، خطيرة ، وهي ، أن قيادات ذلك التيار ، وجدت نفسها وسط ، مّد ، جماهيري عارم ، ساخط على واقع التجزئة ، والتصهين ، مما أغراها بالامتداد الأفقي ، دون ، أن تتيح المعارك المتلاحقة ، لتلك القيادات ، فرصة التقاط الأنفاس ، و الالتفات ، إلى التأصيل الفكري، نضيف ، إلى هذا ، أن الانتماء القومي العربي ، متأصل لدى الجماهير العربية، فالوجود القومي للأمة العربية ، لم يكن موضوع خلاف، و لم يجرؤ ، أحد ، على إنكاره ،إلا مؤخراً ، وهذا يفسّر ، لنا ، أن الشعارات القومية العربية التي طرحت ، كانت أكثر من كافية ، لالتفاف الجماهير العربية حولها ، هذا الواقع الموضوعي ، الذي تغيّر الآن ، أدى إلى تيار قومي عربي جارف ، جماهيرياً ، ممتد ، أفقياً ، لكن ، ينقصه العمق الفكري ، والتحديد المنهجي ، ومن هنا جاء مقتله بعد ذلك …
( 8 )
وهكذا ، فإن الواقع ، الذي ساد ، في عقد الخمسينات وما بعد ، من القرن المنصرم ، وعقب النكبة العربية في فلسطين ، شهد تفوقاً ساحقاً للتيار القومي العربي ، على القوى المعادية ، لم يعد ، أحد ، في الواقع العربي يجرؤ على إنكار الوجود القومي ، للأمة العربية ، لم يعد أحد في الواقع العربي ، يجرؤ أن يطرح حلاً لمشكلة فلسطين ، إلا تحرير فلسطين ….
وبدا الأمر ، وكأن امة العرب ، على وشك الانعتاق ، من محنتها، لكن القوى الإقليمية ، وقوى التصهين ، في الواقع العربي ، عرفت كيف تتعامل مع الواقع الجديد ، فتقدمت ، من الثغرة المنهجية ، التي يعاني منها التيار القومي ، وبدأت تلتهم التيار القومي ، خطوة ، خطوة، تجوّفه من الداخل ، وتحتفظ بالقشرة القومية ، حتى وجدنا ، أنفسنا ، أمام “لغو” لا طائل وراءه ، وأمام هذا الانفصام المخيف بين القول ، والفعل ، بين الشعارات ، وبين السلوك داخل المؤسسات القومية ، ثم داخل كل خلية، ثم داخل الفرد ذاته، حتى أصبحنا ، أمام وضع ضبابي ، باتت ، تتسلل إليه ، حتى الأفكار المعادية .
( 9 )
ما يعنينا ، الآن ، هو التأكيد ، على أن تلك الأفكار السائدة ، والتي تجد ، لها ، سوقاً رائجة في طول الأرض العربية ، وعرضها ، والتي تراهن على الواقع المتردي ، والتي ، تطرح مشاريع ، لتصفية قضية فلسطين العربية ، لحساب الصهيونية ، وتصفية الأمة العربية ، لصالح دول التجزئة ، تلك الأفكار من حق أصحابها ، لكن يجب أن تنسب إليهم ، يجب وقف التزوير ، بأن ينزع عنها الغلاف القومي العربي ، الذي تتستر وراءه ، وتنتهي مرحلة الضياع ، والتزييّف ، والخلط المقصود ، ففلسطين ، في الفكر القومي العربي ، التقدمي ، جزء من الأمة العربية “شعباً” ، وجزء من الوطن العربي “أرضاً”ٍ ، ولا يملك ، أحد ، في فلسطين، أو في أمة العرب، أو في العالم ، كله ، أن يساوم عليه. بل لا يملك ، كل ، هذا الجيل ، من عرب فلسطين ، وكل ، هذا الجيل العربي ، أن يتنازل عن ذرة تراب واحدة ، من أرض فلسطين ، لأن الأرض القومية ، للأمة ، هي ملك الأجيال المتعاقبة ، والأمة العربية مكتملة التكوين ، لكن معتدى عليها من الخارج بالتواطؤ مع بعض المنتمين إليها ، ومشروع النهوض والتنوير القومي العربي التقدمي هو الحامل المرشح للتغييّر باتجاه التطور ، هكذا ، أردنا ، في هذا الحديث ، أن نبعد عن الفكر القومي ، ما ليس منه، وما علق عليه ، زوراً ، وبهتاناً …
( 10 )
ثم ، أردنا من ذلك كله الاعتراف ، بأن مشروع النهوض ، والتنوير ، والتحرير في الوطن العربي ، واقع في مأزق حقيقي ، وأن السبيل الوحيد للخروج من المأزق هو التصدي للمشكلات ، والكف عن الهروب منها إلى التبرير ، وإلقاء المسؤولية على القوى المضادة ، ومؤامراتها ، وهل يعقل أن يخطر على بال عاقل أن تكفّ القوى المضادة للمشروع القومي العربي التقدمي عن ذلك …؟
ولعل الخطوة الأولى على الطريق تكون بالمراجعة الجدّية لكل ما جرى ، وأين كان الخطأ ، وأين كانت الخطايا ، ثم الانتقال لقراءة الواقع العربي الموضوعي كما هو ، الآن ، وما هي الوسائل ، والأساليب ، والبرامج ، والأدوات ، ثم وضع تجارب النصف قرن الأخير من القرن العشرين على طاولة الحوار ، وما هي العبر ، والدروس المستخلصة ؟ ، أين كانت محطات القوة للبناء عليها ؟ ، وأين كانت الثغرات لتلافيها ؟ ، وما هي الأساليب التي تخطاها الزمن ؟ ، وما هي البدائل ، ثم :
أولاً : هل الانقلابات العسكرية مازالت هي الوسيلة المناسبة لتحقيق أهداف المشروع القومي العربي التقدمي؟ .
ثانياً : هل النظم الاستبدادية ، الشمولية مازالت مرشحة لتكون هي الحامل للمشروع ؟
ثالثاً : هل الاجتياح العسكري من قطر عربي ، لقطر عربي آخر ، هو الطريق إلى الوحدة العربية ؟ .
رابعاً : هل هناك حل يتجاوز التغّول الرأسمالي ، وديكتاتورية البروليتاريا ، لتحقيق العدالة الاجتماعية ؟ .
خامساً : هل العنف هو الوسيلة المناسبة للتغيير ؟ .
سادساً : هل العمل السياسي السري مازال ممكناً ؟ .
سابعاً : كيف يمكن مواجهة قمع السلطات ، وعنف المتطرفين في الوطن العربي ، بالعلنية ، ونبذ العنف ؟ .
ثامناً : كيف يمكن استعادة الشارع العربي كحاضنة للمشروع الحضاري العربي ؟ .
تاسعاً : كيف يمكن بناء مؤسسات مشروع النهوض والتحرير على أسس ثابتة بعيداً عن الشخصنة ؟ .
عاشراً : ما هو المنهج الفكري المناسب للمشروع القومي التقدمي العربي ؟ .
أسئلة ، برسم المعنيين ، باستئناف انطلاقة جديدة ، لمشروع النهوض ، والتنوير ، والتحرير ، في الوطن العربي ، ولكل سؤال جواب ، لمن يسعى إليه ……
حبيب عيسى

أضف تعليق