مصر ، ما قبل الثورة ، وإلى ما بعد الردة :لا أحزاب … ولا ديمقراطية …

على بساط الثلاثاء
85
يكتبها : حبيب عيسى

مصر ، ما قبل الثورة ، وإلى ما بعد الردة :
لا أحزاب … ولا ديمقراطية …

( 1 )
لعل أكثر المسائل الشائكة التي مازالت معلقة ، ومفتوحة للنقاش العام ، منذ ما ينوف على النصف قرن ، هي مسألة الديمقراطية ، وبنية الأحزاب السياسية ، في الوطن العربي ، وربما يعود السبب في تأخر التوصل إلى موقف عام متفق عليه نسبياً ، إلى غياب الحوار الموضوعي ، بل ، وحتى انقطاعه بين أطراف تخندّقت في مواقع متناقضة ، و متقابلة ، إلى حد التقاتل ، والصراع العنيف ، حيث نجد كل طرف من تلك الأطراف يتمترّس وراء موقفه ، معتبراً أن كل من ليس معه بالكامل ، ودون تحفظ ، ليس فقط ضده ، وإنما هو ، ضد الوطن ، والتحرر ، والاستقلال ، يستحق الرجم ، صبح مساء ، وفي مثل هذا الواقع يستحيل الحوار الموضوعي ، وبالتالي تتعثرّ الجهود لحل مشكلة الديمقراطية ، وهذا ما حصل في الوطن العربي حيث ما تزال مشكلة الديمقراطية بدون حل ، بل إن ما يدور حولها يزيدها تعقيداً …
( 2 )
وإذا كان أجدادنا قد قالوا :”آفة الرأي الهوى” ، فإنني أعترف بعدم البراءة التامة من تلك الآفة ، فأنا أهوى ، بل ، ومتيمّ بالهوى ، لكنني أعترف ، في الوقت ذاته ، أن التجارب المرة التي مرّت على رؤوس جيلنا قد دفعتني إلى بعض التواضع ، فلم أعد أرى كما في سنوات الشباب ، أنني على حق مطلق ، وأن الآخرين ، كل الآخرين ، في ضلال مبين ، فالهزيمة ، والانكسار ، والانحسار الذي تعرض له مشروعنا التحرري النهضوي التنويري في الوطن العربي عموماً ، قد فتحت أمامي آفاق الرؤية ، عندي ، وعند الآخر في الوقت ذاته ، فلا أنا على حق مطلق ، ولا الآخر في ضلال مبين ، وهذا ليس موقفاً وسطياً بين الحق ، والباطل كما قد يتبادر إلى ذهن البعض ، وإنما هو انحياز تام للحق أينما كان ، وهذا يعني أن لا تحجب القشة في عين الآخر ، وجود الخشبة في عيني ، ولعلنا الآن في أشد الحاجة لتلك الرؤية الموضوعية ، إذ ، بماذا يمكن أن نفسّر انكسار مشروع النهوض والتحرر ، والتنوير العربي ، إلا بانشغالنا في القشة بعين الآخر ، عن إزالة الخشبة من أعيّننا .
دعونا ، وبعد كل هذا الذي جرى في الوطن العربي ، أن نتداعى إلى الكلمة السواء ، في مناخ من المراجعة لا يفرضها طرف من الأطراف على الأطراف الأخرى ، وإنما يفرضها كل طرف ، مختاراً ، على نفسه ، لأن النتيجة المرة كانت دماراً أصاب الجميع على مختلف توجهاتهم ، وبالتالي دعونا نبدأ بطرح الأسئلة :
1 – هل أنظمة الحكم التي كانت سائدة قبل الانقلابات العسكرية ، كانت أنظمة حكم ديمقراطية …؟ .
2 – هل أنظمة الحكم التي كانت سائدة قبل الانقلابات العسكرية كانت مجرد أنظمة فاسدة ، رجعية ، عميلة …؟ .
3 – هل الانقلابات ، والثورات على أنظمة الحكم التقليدية كانت مجرد حركات تمرد غير مشروعة على أنظمة ديمقراطية لإنتاج ديكتاتوريات عسكرية …؟ .
4 – هل تلك الانقلابات كانت مشروعة لتحقيق العدالة الاجتماعية والتحرر من التبعية ، وحرق المراحل باتجاه التنمية ، وبالتالي هي أكثر تعبيراً عن التوجهات الشعبية ، وأكثر ديمقراطية …؟ .
5 – هل الأنظمة التقليدية التي لم تشهد انقلابات عسكرية ، تقدمّت على طريق الديمقراطية ، وحققتها في بلدانها …؟ .
6 – هل الديمقراطية مطلب عربي للتطور ؟ ، أم هي مجرد تعبير عن غزو ثقافي خارجي يجب مواجهته بشتى الوسائل …؟ .
7 – هل طاعة “ولي الأمر” ، أو “الولي الفقيه” ، واجبة ؟ ، ومن يحدّد من هو ؟ ، وهل المستبد العادل ، هو أقصى ما يمكن أن نحلم به .. ؟ ، لكن هل يمكن أن يكون المستبد عادلاً ؟ ، ثم ، هل يطيق العادل أن يكون مستبداً ؟ .
8 – هل ديكتاتورية البروليتاريا هي الحل ؟ ، وهل البروليتاريا تمارس الديكتاتورية ، أم تمارس الديكتاتورية عليها ، وباسمها ؟ .
9 – ما هي علاقة مشروع التحرر ، والنهوض ، والتنوير في وطن عربي تم تركيب 23 سلطة متباينة الرؤى على ترابه ، بالديمقراطية ، ابتداء ، وممارسة ، وغائية ؟ .
10 – هل يكون الحل ، بحسم هذا الحوار الدائر حول الديمقراطية ، بالانحياز المطلق إلى أحد الموقفين : إما إدانة الانقلابات ، والثورات ، والعودة إلى النظم التي كانت سائدة ، وإما إدانة النظم التقليدية ، والانقلاب على من لم ينقلب منها ، حتى الآن ؟ . ثم ما هو مصير الأجزاء المحتلة من الوطن العربي في فلسطين ، وغير فلسطين ؟ هل نبارك للمحتلين فيها ، أم يجب تحريرها ؟ ، ومن يحق له تقديم واجب التبركات ، وعلى من يقع واجب التحرير ؟ .
لعل موضوع الديمقراطية في الوطن العربي لا يمكن اختصاره بتلك الأسئلة ، لذلك دعونا نمارس لعبة إيجابية فيما بيننا ، بل قبل ذلك فيما بيننا وبين أنفسنا ، فنطرح الأسئلة ، ونتبادل الإجابات بعيداً عن تشجّنات أيام المواجهة الحادة … وهذه مسألة مفتوحة للجميع …
( 3 )
الآن ، نحن في ذكرى 23 تموز “يوليو” 1952، وهو حدث أثار ، ويثير حتى هذه اللحظة أكبر قدر من الجدال في الوطن العربي ، هناك من اعتبره مجرد انقلاب عسكري ، جاء في سياق الانقلابات العسكرية التي عطلتّ التطور الطبيعي إلى الديمقراطية ، ويذهب البعض الآخر إلى أكثر من ذلك فيصّنف الحدث في سياق مؤامرات قوى الهيمنة الدولية ، وأن شعب مصر العربي ، كان قبل ذلك الحدث ينعم بالحرية ، وحرية الرأي ، وحرية الأحزاب ، وأنه بعد 23تموز “يوليو” خسر حريته ، وتعرّض للقمع ، والتعذيب ، والهزائم ، وأن جمال عبد الناصر برفعه شعار القومية العربية ، وتحرير الوطن العربي ، ومجابهة الصهيونية ، والهيمنة الخارجية ، حمّل مصر فوق ما تحتمل ، فأرهقها ، وأرهق شعبها … ، وبالمقابل هناك من يرى في ذلك الحدث نقيض ذلك ، يرون فيه ، ثورة على الفساد ، والاستعمار ، والعملاء ، والرجعية ، والاستغلال ، حررت مصر ، وحققت التنمية وأعادت لمصر موقعها المركزي في أمتها العربية ، ووضعت الأسس الضرورية لتحقيق الديمقراطية الحقيقية ، بتعميم التعليم ، والتأميم ، والإصلاح الزراعي ، والدعوة إلى تنظيمات شعبية ، لا تخضع ، لسيطرة الإقطاع ، والرأسمالية …
لن ندخل في سجال مع احد ، حول هذا الموضوع ، وإنما سنفتحه للحوار الهاديء ، خاصة بين أطياف الجيل العربي الجديد الذي لم يواكب تلك الأيام ، ويتم حشره غالباً في جزئيات ، ومواقف ، وأحداث انتزعت تعسفاً من سياقها التاريخي ، ثم يراد منه أن يقف موقفاً إجمالياً من ذلك الحدث ….
( 4 )
باختصار شديد ، سنحاول قدر الإمكان ، أن نضع قاعدة تضبط الحديث ، والحوار حول الأحزاب في مصر قبل “يوليو” تموز1952 ، هل كانت مؤسساتية ؟ ، الديمقراطية ، هل كان شعب مصر يمارسها قبل يوليو ؟ ، ثم ُحرم منها ؟ ، ثم عادت إليه مع الردة ، وكامب ديفد ؟ …
فلتكن البداية من المرحلة الأخيرة ، حيث قاد الرئيس المؤمن أنور السادات “التصحيح إلى الديمقراطية” ، قبل أن تقوده تلك الديمقراطية المشوّهة إلى وضع 99 بالمائة من الأوراق بيد دولة الولايات المتحدة الأمريكية ، ثم إلى اتفاقيات سيناء ، ثم إلى رحلته إلى فلسطين المحتلة “إسرائيل” ، يقدّم أوراق اعتماده للصهاينة ، ثم إلى “كامب ديفد” …
أما ، حقيقة الأمر فأن سيادته كان قد بدأ “التصحيح” بالانقلاب على ثورة جمال عبد الناصر ، بتدمير القطاع العام ، وبيعه عبر الانفتاح ، والقطع مع المشروع التحرري النهضوي القومي العربي الذي كان يقوده جمال عبد الناصر ، وبالتالي سار بمصر العربية ، إلى الردة باتجاه غابة ، يرتع فيها جهابذة الاستغلال ، والقهر ، والتسلط ، والتجسّس . في الوقت الذي كبت فيه ، وقمع ، وحاصر كل صوت وطني ، قومي . هذا كله تحت ضجيج مرتفع النبرات عن الديمقراطية ، وسيادة القانون .
كيف حدث ذلك ؟ ، سنعتمد في تقيم الإجابة ، على وثيقة تاريخية كتبها ، عصمت سيف الدولة ، في منتصف عقد السبعينات من القرن المنصرم عالج فيها هذه المسألة المعقدة ، مسألة الديمقراطية ، ومشكلتها ، وتطور هذه المشكلة ، من نظام ما قبل “الثورة” ، إلى محاولات “الثورة” حل هذه المشكلة ، ومواطن النجاح ، والفشل ، ثم البدء في ” التقدم إلى الخلف اعتباراً من 1971 ” حتى ظهور قانون الأحزاب ، ومدلولاته ، والثغرات الدستورية ، والقانونية في تصرفات الرئيس المؤمن أنور السادات ، وبعد أن دفع عصمت سيف الدولة بتلك الوثيقة إلى المطبعة في ظل “الديمقراطية الجديدة للرئيس السادات” ، تدّخل جهاز الرقابة على الفور ، ليوقف الطبع ، ويصدر قراراً بمنع نشر الكتاب ، وهكذا كان عليّ أن أحمل ذلك المخطوط إلى بيروت التي كانت شبه مدمّرة ، وكان دخان المعارك ما يزال ينبعث من أرجائها ، حيث لا ماء ، ولا كهرباء، لكن بيروت رغم ذلك كانت مازالت تمتلك قسطاً من الحرية ، كان كافياً ، كي تدور المطبعة ، ويصدر الكتاب .. !
( 5 )
المهم ، أن هذه الوثيقة صدرت في كتاب حمل عنوان : “الأحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر” ، قد اكتسبت أهمية إضافية بعد أحداث 18 و 19 كانون الثاني ـ يناير ـ 1977 ثم ، بعد “كامب ديفد” ، ذلك أن عصمت سيف الدولة كان قد توقع ، أن السادات يسير إلى الهاوية من وجهة نظر مشروع التحرير ، والنهوض ، والتنوير القومي العربي ، ليس على صعيد الردة عن المشروع التحرري القومي العربي النهضوي ، التنويري ، وحسب ، وإنما على الصعيد الإقليمي داخل مصر ذاتها بالتراجع عن منجزات الثورة ، ووقف مشاريع التنمية ، وفتح أبواب مصر للاحتكارات الدولية .
إن هذا يقودنا للدخول إلى صلب مشكلة الديمقراطية في مصر رغم أنني أعرف ، أن الباحث في قضايا الديمقراطية ، في الوطن العربي .. كالذي يحرث حقل ألغام قبل أن يمتلك الخريطة الشاملة له … !
فالحديث عن الديمقراطية لا يمكن فصله عن الواقع الاجتماعي ، والأنظمة القائمة ، واتجاهاتها السياسية ، والاقتصادية ، وقد اكتسبت مشكلة الديمقراطية في الوطن العربي ، تعقيدات إضافية ، لم تعرفها في أي مكان آخر من العالم .. نابعة من تعقيدات الوضع العربي نفسه ، التجزئة ، واختلاف نظم الحكم ، وتعدد الاتجاهات السياسية ، والاقتصادية ، والتخلف ، والأمية ، إضافة إلى مشكلات الغزو الخارجي ، والاحتواء الذي تمارسه قوى أجنبية قوية ، وقادرة ، ومعروفة .
( 6 )
ولا بد من القول ، مقدماً ، أن أي حديث عن الديمقراطية ، لن يأخذ أبعاده الكاملة ، إلا عندما يتاح للشعب العربي على أرضه المحررة ، والموحدة ، أن يختار النظام الاجتماعي ، والسياسي ، ويحدّد مفهوم الحرية ، والديمقراطية ، لصياغتها في قوانين نافذة تتيح للشعب العربي ، أن يستخدم إمكانياته الاقتصادية ، وثرواته المادية ، وقدراته البشرية ، لصياغة نموذجه الحضاري المعاصر ، وصياغة هذا كله في قوانين تحمي الشرعية ، وتردع الاعتداء عليها ، لكن هذا لا يعني أن مشكلة الديمقراطية يمكن أن تنتظر إلى ذلك الحين ، بل لعل التطورات الأخيرة ، والتجارب المرة أكدت أن مشروع التحرير ، والنهوض ، والتنوير ، يبدأ بالديمقراطية ، وينتهي إليها … ، وهذا يقودنا للحديث عن الشرعية ، والديمقراطية ، والحرية ضمن ظروف التجزئة .. ، حيث لا بد من بحث القوانين السائدة في كيانات التجزئة العربية ، من حيث مشروعيتها .. ، ومن هو صاحب القرار في هذا .. ؟ … أليس الشعب العربي … ؟ ، وإذا كان الشعب العربي ، هو صاحب القرار ، فإن العديد من القوانين الاستثنائية ، والمقيدة للحريات العامة ، والسائدة في الوطن العربي لابد من إسقاطها من خلال نضال متواصل ، يستهدف من خلاله النهضويون العرب تشريع التحرير ، والنهوض ، والتنوير ، وإزالة العوائق ، وهنا نسأل على سبيل المثال :
– هل تعتبر الدعوة لتحقيق الكيان السياسي الواحد للأمة العربية الذي يتفق اجتماعياً ، وبشرياً ، واقتصادياً ، مع الكيان الواحد للشعب العربي .. دعوة مشروعة ، أم لا .. ؟ ، وإذا كانت القوانين السائدة في “الدول العربية” ، تعتبرها غير مشروعة ، هل يجب تغييّر تلك القوانين ، أم على النهضويين ، التحريريين ، التوحيديين العرب ، الارتداد عن الدعوة إلى إقامة الدولة العربية الديمقراطية الواحدة .. ؟!
– هل تعتبر حدود – “سايكس بيكو” – شرعية ، وحدوداً لمجتمعات حقيقية ، وهل تعتبر القوانين التي تحميها ، وتعترف بها .. قوانين مشروعة ، أم لا ..؟.
الأسئلة كثيرة ، ومتعدّدة ، لكن هذا موضوع شائك ، ومتشعّب .. حديثنا الآن ، يمسّ جزئية منها ، لكنها هامة ، لقضية الديمقراطية في الوطن العربي ، إنها مشكلة الديمقراطية في المركز العربي ، مصر ، حصراً ، إضافة إلى رأي قانوني متعمق ، ودقيق ، في مشكلة الأحزاب التي ظهرت في مصر ، في العقود الأخيرة ، وفي جذور مشكلة الديمقراطية في مصر ، وتطورّها ، والمحاولات لحلها من قبل الأنظمة المتعاقبة . فمنذ يوم الحادي عشر من تشرين الثاني 1976 عندما ألقى الرئيس أنور السادات بياناً في مجلس الشعب المصري قال فيه : ” اتخذت قراراً سيظل تاريخياً يرتبط بكم ، وبيوم افتتاح مجلسكم الموقر هو أن تتحول التنظيمات الثلاثة “المنابر” ، ابتداء من اليوم ، إلى أحزاب .. ” .
منذ ذلك اليوم ، وحتى الآن لم تهدأ التساؤلات ، والتفسيرات ، والآراء المؤيدة ، والمعارضة لتشكيل الأحزاب ، وعن المستقبل السياسي لهذه الأحزاب ، وعن طبيعة “التجربة الديمقراطية” التي بدأت مع تشكيل هذه الأحزاب ، وعن مصير الاتحاد الاشتراكي العربي ، ولماذا ثلاثة أحزاب فقط .. وتصاعدت هذه التساؤلات ، والتفسيرات مع معركة الانتخابات التي خاضتها تلك الأحزاب لعضوية مجلس الشعب … ثم تصاعدت التساؤلات أكثر مع بحث مجلس الشعب المصري ، لإصدار قانون الأحزاب ، وقد أصدره فعلاً ، وأتاح السماح بإنشاء أحزاب جديدة ضمن شروط ، وضوابط حددّها القانون المذكور ، ثم عاد لمناقشة القانون مرة أخرى بعد أن اتسعت المناقشات ، حول مواد القانون ، وكيف يجب أن يكون .. ؟!!!
( 7 )
والكتاب ، الذي بين أيدينا ، دراسة قانونية في الأحزاب التي تشكلت ، وما هي الأشكال القانونية ، والمواد الدستورية التي كان يجب أن تحذف ، أو تضاف مع قرار الرئيس السادات …؟ ، ليكون تشكيل الأحزاب مشروعاً من الناحية القانونية .
والكتاب ، ثانيا ، ليس مجرد دراسة قانونية في الدساتير ، فالدكتور عصمت سيف الدولة ، كما عرفناه من خلال مؤلفاته الكثيرة ، والغنية ، والعميقة ، لا يمكن أن يبحث في الأحزاب ، بمعزل عن الدستور ، والقوانين السائدة ، ولا يمكن أن يبحث في الدستور بمعزل عن علاقته باتجاهات النظام ، السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، ولا يمكن أن يبحث في اتجاهات النظم ، بمعزل عن الظروف التي جاءت بها إلى الحكم .. الخ ..
وهكذا كان … فالبحث في الأحزاب اضطر الدكتور سيف الدولة ، إلى بحث تاريخ مشكلة الديمقراطية في مصر ، قبل “الثورة” ، ثم “ثورة 23 تموز ـ يوليو” ، ومحاولاتها ، للبحث عن طريق لحل مشكلة الديمقراطية ، وتجاربها بهذا الخصوص ، منذ عام 1952، وحتى عام 1961 ، ثم مرحلة التصدي لها التي بدأت عام 1961 ، واستمرت حتى عام 1971 ، فمرحلة الردة التي بدأت عام 1971 ، فمشكلة الديمقراطية بعد ذلك ، ثم رأيه في الأحزاب ، ثم اقتراح تحت عنوان : ما العمل .. ؟ ، ويختتم كتابه بتقديم دراسة في أقوال جمال عبد الناصر ، وتطوره من الديمقراطية الليبرالية ، إلى الديمقراطية الاجتماعية ، الاشتراكية .. .
( 8 )
يبدأ عصمت سيف الدولة بدراسة – البيان – القرار – القاضي بإنشاء الأحزاب ، الذي أصدره الرئيس أنور السادات ، ويقول : ” لقد حرك هذا القرار أفعالاً ، واستدعى ردود أفعال ، تتفق في اتساعها ، وعمقها مع خطورته ، ومرجع هذه الخطورة أنه يتصل اتصالاً وثيقاً بقضية الديمقراطية شكلاً ومضموناً ” ، وأضاف : “أن البيان قد انطوى على مضمونين أحدهما إيجابي ، والآخر سلبي ، أما المضمون الإيجابي ، فإنه يتمثل في إنشاء ثلاثة أحزاب ، وأما المضمون السلبي ، فإنه يتعلق فيما أصاب الاتحاد الاشتراكي العربي الذي تضمن القرار أمراً برفع يده” .
ثم ينتقل عصمت سيف الدولة إلى مناقشة القوة الملزمة للقرار ، ومخاطر عدم الدستورية ، ويقول : ” إن استبدال تحالف قوى الشعب العاملة ، بالأحزاب – حتى مع اشتراط بقاء نسبة الخمسين في المائة في كل حزب للعمال ، والفلاحين – مناقض لحكم المادة الأولى من الدستور . هذا بدون حاجة إلى التعبير عن جهلنا بكيفية إلزام الأحزاب بنسبة الخمسين في المائة عمال ، وفلاحين إذا رفض العمال ، والفلاحين ، مثلاً ، الانتماء إلى أحد الأحزاب ، وماذا سيكون الجزاء على هذا : هل يصبح الحزب غير شرعي مثلاً .. ؟ !
ثم يشير إلى قانون الوحدة الوطنية رقم 34 لسنة 1972الذي أصدره السادات نفسه ، والذي نصّت المادة الثانية منه على : ” أن الاتحاد الاشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الوحيد المعّبر عن تحالف قوى الشعب العاملة . وهو يكفل أوسع مدى ، للمناقشة الحرة داخل تشكيلاته ، والتنظيمات الجماهيرية المرتبطة به . ولا يجوز إنشاء تنظيمات سياسية خارج الاتحاد الاشتراكي العربي أو منظمات جماهيرية أخرى خارج المنظمات الجماهيرية التي تشكل طبقاً للقانون .. ” .
ثم يناقش عصمت سيف الدولة ، المادة 189 من الدستور التي تتيح لكل من رئيس الجمهورية ، ومجلس الشعب طلب تعديل مادة ، أو أكثر من مواد الدستور ، لكن تلك المادة تكشف عن مدى العقبات الإجرائية التي تعترض التعديل ، وتكاد تجعله مستحيلاً إذا ما تضمن التعديل مالا ترضى عنه السلطة التنفيذية القائمة التي ينتمي إليها أكثر من ثلثي أعضاء مجلس الشعب ، فمشكلة الديمقراطية في مصر أشمل ، وأعمق من مشكلة التنظيمات ، والأحزاب ، وأنها ، بالتالي قد تتطلب لحلها تغييراً أساسياً في التشريعات ، والنظم القائمة .
( 9 )
لذلك لا بد من دراسة تاريخ مشكلة الديمقراطية في مصر . وهكذا يدخل عصمت سيف الدولة إلى جذور مشكلة الديمقراطية في مصر ، إذ ، لا يمكن القول علمياً ، بأن مشكلة الديمقراطية في مصر ، قد نشأت اليوم ، أو هذا العام ، أو من بضعة أعوام قبله . تقطيع عمر التاريخ إلى سنوات منفصلة مستحيل القبول علمياً ، لأن التاريخ حركة تراكم مستمرة ، ولا شك في أن سعيد بن محمد علي ، والي مصر ، حين رأى أن يقطعّ أوصال أخصب جزء من أرض مصر ، ويوزعّه “أبعديات” على مريديه ، لم يكن يعلم أنه ينشىء النظام الذي فرّخ الإقطاعيين ، أولئك الذين كانوا ، وما يزالون على رأس قائمة أعداء الديمقراطية . كما لا شك في أن ” طلعت حرب ” حين أنشأ بنك مصر ، وشركاته عام 1914 – 1918 لم يكن يعلم أنه يرسي قواعد النظام الذي فرّخ الرأسماليين ، أولئك الذين كانوا ، وما يزالون في مصر ، وغير مصر ، أعداء الديمقراطية ..
( 10 )
ثم يستعرض عصمت سيف الدولة ، دستور 1923 ، وهو أول دستور في تاريخ مصر ، كما يقولون ، وكيف أهُدرت أحكامه ، إهداراً مشيناً ، وتم تعطيله أكثر من مرة ، بفعل إرادة الملك ، وجيش الاحتلال الانكليزي ؟ ، وكيف كانت إرادة الشعب غائبة في خضّم الصراعات الليبرالية ؟ ، ونقصد بالشعب أغلبيته من العمال ، والفلاحين ، ولا نقصد تلك الشريحة الضئيلة من المثقفين التي شكلت الأحزاب ، وأدوات إعلامها ، الشعب الذي نقصده ، لم يعرف شؤون الممارسة الديمقراطية ، إلا في تلك اللحظات التي تستدعيه فيها الحكومات ، لانتخاب من تريد السلطة القائمة ، انتخابه .
فإذا كانت حجة أنصار نظام ما قبل الثورة ، أن الشعب هو سبب أزمة الديمقراطية ، لأنه كان شعباً متخلفاً ، علماً ، ووعياً ، وفي بعض الأوقات ، يقولون ، أخلاقاً .. ألم يخطر ببالهم ، أنه إذا كانت الديمقراطية تتطلبّ شعباً متقدماً ديمقراطياً ، فإن الديمقراطية قد لا تكون أصلح نظم الممارسة لشعب متخلف ديمقراطياً …؟؟!! ، فهل يقبلون ذلك ؟ ، على كل حال سنحدثهّم ، لماذا ؟، وكيف ؟، لم يكن شعب مصر حراً في الواقع ، بالرغم من إقرار الدستور له ، بالحرية ..
( 11 )
نتحدث عن ديكتاتورية الرأسمالية ، وكيف كان للمصريين حقوق سياسية وفيرة ، لكن النظام كان قد جردّهم من المقدرة الفعلية على ( ….. ) ، بفعل الرأسمالية السائدة ، وكم كان الشعب مرتبطاً بأمعائه ، بالمسيطرين عليه اقتصادياً ، القادرين على وصل الأرزاق ، وقطعها . ففي العالم الثالث حيث الموارد المحدودة لا تسمح بمزيد من الثراء إلا مع مزيد من الفقر ، وكلما ازدادت الهوة نشطت سوق الطغيان ، حيث تباع الحرية ، وتشترى ، الأثرياء يشترونها ، والفقراء يبيعونها ، ولن يفضّ هذا السوق غير الإنساني ، غير الديمقراطي ، إلا بالثورة . وعلى من يشك في هذا أن يراجع تاريخ شعوب العالم الثالث ، فيكتشف قانون حركته : تحرر من الاستعمار ، ثم نظام “شبه ليبرالي” –، ثم ثورة مسلحة ، أو انقلاب لإجهاض ، وتأخير الثورة المسلحة ، والثورة عموماً ، وهكذا .
( 12 )
ثم ، نتحدث عن قرار خديوي مصر ، بفرض العقاب على مجرد اتفاق شخصين ، أو أكثر على أمر ، ما .. حتى ، ولو كان اتفاقهم لتحقيق غاية مشروعة ، حتى ، لو لم يفعلوا شيئاً إلا مجرد الكلام ، والاتفاق ، ثم يعفي قرار الخديوي ، من العقوبة المقررة في هذه المادة كل من بادر من الجناة ، بإخبار الحكومة ، بوجود اتفاق ، وبهذه الفقرة الأخيرة بدأ التخريب الأخلاقي ، وتدريب الناس على الخيانة ، والغدر ، والتجسّس ، وتشريع أعمال المخبرين على غيرهم ، في مقابل مكافأتهم ، بإعفائهم من العقوبة .
ومنذ عام 1910 ، وحتى الآن ، كانت هذه المادة هراوة السلطة ، لإرهاب كل الجماعات ، والأحزاب التي فكرّت ، مجرد تفكير ، في مقاومة الاستبداد ، وأفسدت الضمائر ، وعلمّت الناس الخوف من مجرد الحوار … وشككتّ الناس في أقرب الناس إليهم ، خوفاً من التبليغ ، عما يتحاورون فيه ، أو يتفقون عليه ، حتى في جلساتهم العائلية الخاصة .
( 13 )
ثم ، نتحدث عن القانون الذي أصدره الخديوي ، ويمنع التجمهّر بأشكاله كلها ، ولو اجتمع الناس لمراقبة حدث لا علاقة لهم ، به ، فإنهم مسئولون .. ! ، ثم كيف تخضع المظاهرات لقانون التجمهر ، والحبس ، إن ذلك ليس مقصوراً على المتظاهرين فعلا ، بل يحبس أيضاً الذين يحاولون الاشتراك في مظاهرة ، حتى لو لم يستطيعوا المشاركة فيها ، وبذلك ، فإن من حق المصريين ، أن يقيموا الاجتماعات والمظاهرات ، بشرط بسيط جداً ، هو أن تكون السلطة راغبة فيها ، ثم ، كيف أن قانون المطبوعات كان إرهابياً منذ بدايته ، ثم كيف أن القانون الذي يحدّ من الحريات ، ويعلن الأحكام العرفية الذي صدر عام 1929 بمناسبة دخول الحلفاء الحرب ، ما يزال سارياً حتى الآن ..
( 14 )
ثم يختتم عصمت سيف الدولة حديثه عن مشكلة الديمقراطية قبل الثورة ، بالقول : ” في ظل القهر الاقتصادي .. وفي ظل التشريعات الإرهابية .. لم يكن غريباً أن تبقى الحريات السياسية كما جاءت في دستور 1923 مجرد نصوص ميتة ، وأن أغلبية الشعب قد انسحبت بعد ثورة 1919 من الحياة العامة ، وركنت إلى السلبية ، وما زالت راكنة حتى أصبحت راكدة ، وبلغ الركود قبل ثورة 1952 حدّ قبل فيه الشعب ، أغلبية الشعب مكانه المتدني ، وأصبح رائجاً ، – أن العين لا تعلو على الحاجب – ، و – أن الأصابع غير متساوية – ، وأن – من يتزوج أمي أقول له يا عمي – ، وأن – السادة قد خلقوا ، ليكونوا سادة ، والعبيد قد خلقوا ليكونوا عبيداً – ، وان الله قد أمر بإطاعة ولي الأمر ، وكان ذلك أخطر ما وصلت إليه مشكلة الديمقراطية في مصر ، يوم أن استقر في أذهان الفلاحين ، والعمال المقهورين من كل نوع ، أن الاستبداد حق للمستبدين ، عليهم أن يقبلوه ، وليس لهم أن يقاوموه . كانت تلك هي مصر عام 1951 ، وكانت تلك مشكلة الديمقراطية فيها ، فكيف واجهت “الثورة” مشكلة الديمقراطية ، وكيف حاولت حلها ، وإلى أي مدى نجحت .. ؟ ! .
إذن ، هذا هو الوضع الذي كان سائداً في مصر ، والذي يتباكى عليه الديمقراطيون في الوطن العربي ، فهل العودة إليه تشكل الحل المناسب لمشكلة الديمقراطية في مصر ؟ .
( 15 )
في بداية الحديث عن مشكلة الديمقراطية مع قيام “ثورة 1952″ يشير عصمت سيف الدولة ، إلى الحادثة التالية :
” في أكثر من مناسبة ذكر الرئيس أنور السادات قصة الخلاف الذي ثار في مجلس قيادة الثورة حول الموقف من نظام الحكم . خلاصة ما قاله ، أن مجلس قيادة الثورة قد واجه منذ البداية اختبار الاختيار بين الديمقراطية ، والديكتاتورية نظاماً لحكم مصر ، وقال أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وحده ، هو الذي اختار الديمقراطية ، لحكم شعب مصر ، في حين أن باقي أعضاء مجلس الثورة ، كلهم ، ومن بينهم الرئيس أنور السادات نفسه ، قد اختاروا الديكتاتورية ، نظاماً يحكمون به شعب مصر ، وأصرّوا ، فاستقال جمال عبد الناصر ، فتراجعوا ، فرجع عن استقالته ، هذه القصة تكشف – في لحظة اعتراف – عما كانت عليه نوايا أعضاء مجلس قيادة الثورة ، بالنسبة إلى الشعب ، إلى أن استقال جمال عبد الناصر ، ثم مدى ثقة كل واحد منهم بصحة رأيه ، ونواياه ، حين رجع عن استقالته ، ولا نستطيع ، نحن ، أن نعطيها دلالة خاصة أكثر من هذا … ”
ثم يشير عصمت سيف الدولة إلى المصاعب المتراكمة التي ورثتها الثورة ، ولا بد من الالتزام بالحدود الثلاثة التالية ، لمعرفة إلى أي مدى نجحت ، أو أخفقت ثورة 1952 في حل مشكلة الديمقراطية :
– الحد الأول : الموقف من الشعب ، أغلبية الشعب ، عمال ، فلاحين ، طلاب .. ؟
– الحد الثاني : اكتشاف الخط العام لثورة تموزـ يوليو ، من الديمقراطية مشكلة ، وحلاً .
– الحد الثالث : متابعة خط الثورة ، والانتباه إلى نموّه ، وتطوّره ، والتركيز على اتجاهه العام .
فمشكلة الديمقراطية ، لم توجد في مصر بين يوم ، وليلة ، وبالتالي ، فلسنا نتوقع أن تحّل بين يوم ، وليلة ، أو أن يصدر بحلها قرار ، واجب النفاذ ، فوراً ، فتحلّ . وعليه ، فسيكون تقديرنا لموقف الثورة من مشكلة الديمقراطية ، وحلها ، مستنداً إلى ما إذا كانت “الثورة” ، أو لم تكن ، ديمقراطية الاتجاه ، وإلى أي مدى تقدمت ، أو توقفت ، أو تراجعت على طريق حل مشكلة الديمقراطية ، وما هي عوامل تقدمها ، أو توقفها ، أو تراجعها ، إن وجدت .. ؟
في هذه الحدود ، قسمّ عصمت سيف الدولة ، عمر الثورة إلى مرحلتين . المرحلة الأولى بدأت عام 1952 وانتهت عام 1961، والمرحلة الثانية بدأت عام 1961 وانتهت عام 1971 .
( 16 )
يطلق عصمت سيف الدولة على المرحلة من 1952 وحتى 1961 اسم ” مرحلة التجارب ” ، ذلك ، أن مشكلة الديمقراطية قبل الثورة لم تكن تتمثلّ في افتقاد الحريات السياسية المسطرّة في الدستور ، بقدر ما كانت تتمثل في عجز الشعب فعلياً عن ممارسة تلك الحريات السياسية ، نتيجة للقهر الاقتصادي الذي كان واقعاً عليه ، والقهر الاقتصادي كأية علاقة بشرية ذات طرفين “قاهر ، ومقهور” ، وبما أن “الثورة” لم تكن تمتلك خطة إستراتيجية ، وتنظيماً سياسياً ، فإنها اعتمدت التجريب ، فأصابت ، وأخطأت ، وقد حاولت أولاً تحقيق تحرير المواطنين من القهر الاقتصادي ، فكان قانون الإصلاح الزراعي ، ذلك أن مشكلة الديمقراطية في ريف مصر تتلخص في كيف يمكن تشجيع الفلاحين على الاستقلال بإرادتهم عن إرادة المسيطرين عليهم اقتصادياً ، واجتماعياً …
ثم يبحث عصمت سيف الدولة في كيفية معالجة “الثورة” لسيطرة الرأسماليين على الحكم ، وكيف أولت ظهرها لليبراليين ، ولم تثق في مثقفي الليبرالية ، ودعاتها بعد عام 1954 ، ثم كيف بدأت “الثورة” تتجه إلى الشعب ، وحرضّته على مقاومة السلبية ، والزّج به في ميدان العمل العام ، انتباهاً ، وممارسة ، ثم ، إنشاء “هيئة التحرير” ، وماذا حققت التجربة ؟ ، وأين يكمن القصور فيها .. ؟ ، ثم تشكيل الاتحاد القومي ، وإدخال النساء إلى الانتخابات ، ثم جعل الانتخاب إجبارياً لإخراج المواطنين من السلبية ، والسكونية ، لكن رغم هذا لم تحل مشكلة الديمقراطية ، وكان الخطأ الأساسي للثورة هو توهمها أنها إذ تتولى الحكم بأشخاص قيادتها تكون قد قضت على سيطرة رأس المال على الحكم .. فتسلل الرأسماليون أعداء الديمقراطية ، فاختارت الدولة ” رأسمالية الدولة ” أسوأ النظم السياسية على الإطلاق ، ثم تبيّن استحالة أن تكون الدولة مع مصالح الرأسماليين ، ومصالح العمال في وقت واحد …
ينتقل عصمت سيف الدولة بعد ذلك للحديث عن الطبقة الجديدة ، ثم ينهي حديثه عن تلك المرحلة بإدراك قائد الثورة جمال عبد الناصر لهذه الأخطاء فيقول في 1961 : ” إن التجربة قد أثبتت خطأ تكوين الاتحاد القومي الذي فتح أبوابه للقوى الرجعية ، وبالتالي لا بد من إعادة تكوينه ليكون أداة لثورة الجماهير الوطنية وحدها ، صاحبة الحق والمصلحة في التغيير الثوري ، وقصر عضويته على العمال ، والفلاحين ، والمثقفين ، وأصحاب المهن ، والملاك الذين لا تقوم ملكيتهم على الاستغلال ، ورجال القوات المسلحة ” .
اعترفت الثورة ، إذن ، بالخطأ في التجربة ، فكيف حاولت التصحيح ابتداء من عام 1961 … ؟ .
( 17 )
المرحلة من 1961 إلى 1971 هي مرحلة التصدي للأخطاء حسب وجهة نظر عصمت سيف الدولة ، فيقول : ” في عام 1961 حدثت في مصر ثورة بكل معاني الثورة ، وإن كانت سلمية ، وهي ثورة تنسب إلى جمال عبد الناصر ، ولا يمكن أن ُتنسب إلا ، إليه .. وضربت ضرباتها في صيغة قرارات ، بقوانين صدرت تباعاً صيف عام 1961، واستمدت شرعيتها من غايتها الثورية … ولقد قيل أن الانفصال “إنفصال الإقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة” ، كان رداً على تلك الإجراءات الثورية ، أي أن الانفصال كان ثورة مضادة ، ولكن الواقع الذي ثبت بعد ذلك ، هو أن الانفصال كان تنفيذاً لمخطط استعماري وضع عام 1958 ، أي فور الوحدة ، وبدأ التدريب على تنفيذه منذ ذلك الحين .
ثم يشرح عصمت سيف الدولة ، ويستعرض القرارات ، والتشريعات التي صاغت قوانين ثورة 1961الاجتماعية ، وأثرها على الإقطاعيين ، والرأسماليين من جهة ، وعلى العمال ، والفلاحين من جهة أخرى … إلى أن يصل بعد ذلك إلى “الميثاق” الذي تضمن رؤية جديدة لمشكلة الديمقراطية ، وحلهّا ، صاغها “الميثاق” في باب خاص منه ، وحددّها بخمسة أبعاد متكاملة هي : 1- ديمقراطية اشتراكية ، 2- تحالف قوى الشعب ، 3- تنظيم التحالف ، 4- قيادة التحالف ، 5- الديمقراطية الشعبية .
ثم يناقش عصمت سيف الدولة : التطبيق … ، النجاح ، والإخفاق ، ثم السباق إلى النفاق ، والدور المخرب لجمهرة الانتهازيين ، وظهور طبقة البيروقراطيين ، والرأسمالية الطفيلية ، ينتقل عصمت سيف الدولة بعد ذلك إلى مناقشة السلطة التنفيذية في تلك الفترة ، ودستور 1964 ، ثم المحاولة الأخيرة لجمال عبد الناصر عام 1968 لتصحيح الوضع المختل في تكوين الاتحاد الاشتراكي العربي … ثم التوقف عن التقدم ، بوفاة الرئيس ناصر عام 1970 ، فالصراع في القمة ، فالوصول إلى مفترق طرق ……
( 18 )
باختصار شديد ، كانت مشكلة الديمقراطية في مصر ، قبل دستور عام 1971 قد وصلت إلى الوضع التالي :
أولاً : كانت الثورة في نطاق اتجاهها الديمقراطي العام ، قد رفضت المفهوم الليبرالي للديمقراطية .
ثانياً : وكانت الثورة في نطاق اتجاهها الديمقراطي العام قد قضت ، أو أضعفت أعداء ديمقراطية الشعب من الإقطاعيين ، والرأسمالية الكبيرة ، والمؤسسة الأمنية المخابراتية الإرهابية ، بعد 1967 ، ولم يبق إلا البيروقراطية ” … ”
ثالثاً : وكانت الثورة في نطاق اتجاهها الديمقراطي العام قد خطت خطوات كبيرة نحو تحرير الفلاحين ، والعمال ، وعزلت أعداء الشعب ، واستعملت كل الأساليب التي خطرت على بالها لإخراج الشعب من سلبيته ” … ”
لكن بالرغم من الخطوات الكبيرة نحو حل مشكلة الديمقراطية على وجه لا تمكن مقارنته بما كانت عليه مصر منذ حكم الفراعنة حتى حكم الملوك ، فإن المشكلة ، مشكلة الديمقراطية ، كانت قد زادت حدتها ، أضعافاً مضاعفة عام 1971 عنها عام 1952 أو ما قبله من أعوام . لماذا .. ؟ ” … ”
بكل الأحوال ، كان الإنجاز البشري من أروع الانجازات الديمقراطية للثورة ، لأنه استولد الشعب العملاق النائم ، جيلاً يقظاً ، واليقظة الشعبية أولى شروط الديمقراطية ، نظاماً ، والديمقراطية ، ممارسة ، وهكذا ، عندما جاءت سنة 1971 كان في مصر شعب أكثر تمسكاً بحقه في الديمقراطية من شعب 1961 ، ومن شعب 1956 ، ومن شعب 1952 لأن موجة الوعي الشعبي كانت في تصاعد مستمر بفعل الثورة ذاتها ، وكان لا بد من أن تحلّ مشكلة الديمقراطية في شعب شبابه جيل يقظ لا يقبل أنصاف الحلول ، أو الانتظار .
وهكذا ، ورغم ذلك ، بدأ التقدم إلى الخلف اعتباراً من 1971 ، فيناقش عصمت سيق الدولة ، إمكانية العودة … وطرح مشكلة الديمقراطية كما كانت مطروحة عام 1952 ، ومحاولة البعض أن يتجاهل : ” أن مياهاً كثيرة جرت في نهر النيل منذ عام 1952 ” … ثم ينتقل عصمت سيف الدولة إلى مناقشة دستور 1971 ، والتشريعات التي صاغت تنظيم الاقتصاد ، وعودة الرأسمالية ، ثم الانفتاح الذي يكاد أن يكون انقلاباً على المقومات الأساسية للمجتمع ، وتنظيم استثمار رؤوس الأموال الأجنبية ، والعربية ، ” … ” ، فالمعركة العارية التي جرت خلال انتخابات مجلس الشعب – 1976 – ولماذا لم يشارك في هذه الانتخابات إلا ثلث المقيدين في جداول الانتخاب .. ؟ .
ثم ، يبيّن عصمت سيف الدولة ، كيف أفسدت الرأسمالية حل مشكلة الديمقراطية ..، ويناقش ، بعد هذا ، المادتين 73 و 74 من الدستور ، بطريقة قانونية مفصّلة ، وينبّه إلى مخاطر المادة ” 74 ” بشكل خاص ، وكانت المصادفات الغريبة ، هي أن هذا الكتاب موضوع البحث كان قد أدخل إلى المطبعة ببيروت في 2 يناير “كانون الثاني” 1977 ، وبعد شهر واحد من هذا التاريخ ، استند الرئيس السادات على تلك المادة ، لإصدار القانون رقم 2 لسنة 1977، وهو القانون الذي حدد عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة لكل من يهّدد الوحدة الوطنية .. ؟!.
يناقش عصمت سيف الدولة ، بعد ذلك ” الاتحاد الاشتراكي ” ، ودور الرئيس أنور السادات الذي عاصر التجربة كلها ، ويختم حديثه عن ذلك ، بالقول : ” .. نحن لا ندافع عن “الاتحاد الاشتراكي” ، ولكننا ندافع عن الشرعية الدستورية ، والدستور هو عنوان الشرعية ، حتى لو كانت فيه أحكام لا تعجبنا ، ذلك ، لأننا نعتقد أن التمسك بالشرعية الدستورية ، وبدستور 1971 بالذات هو المدخل الصحيح في هذه المرحلة 1976، لحل مشكلة الديمقراطية ، كما هي قائمة في مصر الآن “1976” … ، تلك المشكلة التي ازدادت حدة حتى حملت رئيس الجمهورية على طرحها للمناقشة من خلال اجتهاده في حلها عام 1976 ، وحملتنا على أن نتتبع تطورها منذ أكثر من نصف قرن ، وحتى الآن .. !
ينتقل عصمت سيف الدولة بعد ذلك ، لمناقشة الاتجاه العام لمشكلة الديمقراطية في المرحلة الحاضرة “1976” ، فالتركة ، والقيود ، والعقبات التي ورثتها من مراحل سابقة ، ثم يقوم بدراسة تناقضات المرحلة ، وينتهي إلى القول : “أن قضية الأحزاب التي يتناولها بعض الناس ببساطة الفرحين بلعبة جديدة ، أو فرحة المفتقدين لشيء يهمهم الحصول عليه ، أكثر خطورة بمراحل ، مما يتصورون ، إنها ليست إلا جملة في صفحة كتاب مليء بالصفحات ، والسطور ، موضوعه مصر المستقبل ، وليس مصر الحاضرة” .
يبدأ عصمت سيف الدولة بعد ذلك بمناقشة موضوع الأحزاب … فيسأل : أية أحزاب ؟ ، فلا يمكن لأي اشتراكي ديمقراطي أن يقع تحت تأثير السحر الميتافيزيقي لكلمة الأحزاب ، ثم يناقش بعد ذلك طريقة تشكيل الأحزاب ، ودور الاتحاد الاشتراكي العربي ، والسلبيات التي رافقت التجربة ” … ” .
ثم يسأل : ما العمل … ؟!
يحاول عصمت سيف الدولة أن يجيب ، فيستعرض الحل الديمقراطي ، ويقدم دفاعاً عن الشرعية ، ويقول بصيغة استدعاء مُقدم إلى كافة السلطات في مصر عام 1976 : ” إذن ، نحن عصمت سيف الدولة ، استعمالاً للحق الدستوري المقرر للمواطنين في المادة 63 من الدستور ، التي تتيح لكل فرد حق مخاطبة السلطات كتابة ، وبتوقيعه ، ها نحن ” نلتمس ” من كافة السلطات في مصر أن توقف إصدار أية قوانين ، أو قرارات تتصل بمشكلة الديمقراطية ، إلى أن تصدر قانون بإنشاء محكمة دستورية عليا تطرح عليها القوانين ، والقرارات التي تدخل في نطاق ” سياسة الانفتاح ” وأية قوانين ، أو قرارات أخرى ، للتأكد من مدى مطابقتها للدستور .. ونحن مطمئنون تماماً للنتيجة … ! ”
( 19 )
ثم ، ماذا تبّقى من جبل الثلج … ؟ ، وما هو القصور الذي صحب هذا الحديث منذ بدايته حتى نهايته ، يجيب عصمت سيف الدولة ، فيقول : “إن هذا الحديث حصر رؤية المشكلة الديمقراطية في الإطار الشرعي ، حتى كاد أن يكون دراسة في الدساتير ، فغاية الديمقراطية ، أن تكون حياة مشروعة .. ! ” ، ثم يبيّن ، أن الحديث دار بعيدا عن قضايا ، مثل : مادة ” الصخب ” الديمقراطي … ، مثل : ملكية الصحافة ، وحريتها ، وحرية الاجتماع … وحق الأحزاب … إلا أن عصمت سيف الدولة ، ُيبرّر هذا القصور ، بأنه كان يريد أن يرّد مشكلة الديمقراطية إلى أصولها العامة حتى لا نتوه في الفرعيات …
ولكن القصور الأكبر ، كما يقول عصمت سيف الدولة ، كان ، هو عدم الغوص إلى ما تحت الأمواج لكشف باقي جبل الثلج ، الذي لا يطفو إلا بعضه . فلم نتحدث عن البعد الخارجي للديمقراطية . ولا عن علاقة الديمقراطية الاشتراكية ، بالاستقلال الوطني ، والنضال من أجل التحرر . ولا عن علاقة الليبرالية ، والرأسمالية ، بالقوى المعتدية التي تحتل الأرض العربية . أو عن علاقة تيارات الاتجاهات الداخلية التي تتلاطم في مجتمعنا ، بالتيارات الخارجية التي تحيط بنا ” .
ثم يضيف عصمت سيف الدولة في ختام كتاب “الأحزاب ومشكلة الديمقراطية في مصر” ، دراسة مفصّلة ، ومنهجية في أقوال جمال عبد الناصر حول موضوع الديمقراطية ، والتدرّج من الديمقراطية الليبرالية ، إلى الديمقراطية الاشتراكية ، وتمثل هذه الدراسة رؤية عبد الناصر من واقع أقواله ، لمشكلة الديمقراطية ، عن ذات الفترة التي يتناولها الكتاب بحيث يمكن أن تكون مرجعا لرؤية المؤلف .
ثم ، لعل الأهمية الإضافية لهذا البحث عن الديمقراطية في مصر تنبع ، أيضاً ، من كون عصمت سيف الدولة هو ذاته الباحث ، الفيلسوف ، المنهجي ، القانوني ، المشرّع ، لشرعية الثورة الوحدوية القومية الاشتراكية في الوطن العربي ، فالنضال من أجل الوحدة العربية هو ذاته النضال من أجل الحرية ، والديمقراطية ، والنهوض ، والتنوير ، في الأجزاء ، وفي الكل العربي على حد سواء …. .
( 20 )
أمــــــــّا بـــــــعد …!
كلمة أخيرة ، لابد منها ، تتعلق بالديمقراطية في الوطن العربي ، نضعها بتصرف الجيل العربي الجديد الذي يتعرض لقصف إعلامي من جهات متعددة ، متناقضة ، يوّجهها الاستبداد من : القصور ، وينضح فيها التخلف من : بيوت الطين ، والصفيح ، ويعزف عليها المستغلون من : شركات مشبوهة لا يعرف أحد كيف تتورمّ كالسرطان ، أو تختفي كالخنفساء ، وترقص على نغماتها قوى الهيمنة الخارجية من : الفضائيات ، أو بالدبابات إذا اقتضى الأمر ، ورغم التباين بينهم يتفقون جميعاً ، دون اتفاق ، على الإبقاء ، على حالة الاستلاب ، والسلبية في المجتمع العربي ، لأن تلك الحالة هي الوحيدة التي توّفر لتلك القوى على مختلف مصالحها ، تغييّب الشعب العربي عن القرار ، وافتقاده للإرادة ، هكذا يستمر الاستبداد ، وهكذا تسود أفكار التخلف ، وهكذا تسود عصابات المستغلين ، وهكذا يكون الوطن العربي قابل لاجتياح دبابات الغزاة عندما يقرروّن الحاجة إلى ذلك ، وهكذا ينحسر مشروع النهوض ، والتحرر ، والتنوير عن الأمة ….
لكن ، ما علاقة هذا كله بالديمقراطية ؟ ، علاقته ، أن الديمقراطية بمعناها الإنساني الجدلي هي الجوهر في عملية تفعيل عناصر قانون تطور المجتمعات ، قانون “الجدل الاجتماعي” ، حيث الإنسان الفرد في المجتمع ، هو عنصر التطور ، وعندما نستلبه حريته ، بأية وسيلة من الوسائل ، عنف ، قهر ، تضييق على الحريات ، سجون ، قهر اقتصادي ، تمييز جنسي ، عنصري ، ديني ، فإن هذا يعني وقف جريان شريان التطور في المجتمع ، وبالتالي استنقاعه ، ونمّو كائنات زاحفة ، أو متغوّلة ، أو مفترسة ، المهم ، لا إنسان ، لا تطور ، وإنما مجرد تحوّل تفرضه القوانين النوعية للكائنات غير الإنسانية ….
إذن ، الديمقراطية ، ليست صندوق اقتراع ، وحسب ، وليست قانون أحزاب ، وحسب ، وإليكم الدليل من التجربة في مركز العرب ، مصر …
منذ 35 عاماً صدر قانون أحزاب في مصر ، ولم يتشكل في مصر ، حزب سياسي واحد ، بالمعنى الحقيقي ، المؤسساتي ، لقد نشر نظام الردة الاستبدادي في مصر أجيالاً من الطفيليات التي صنعّها ، كرجال أعمال ، وشركات ، ولعب على الفتنة الداخلية ، وأفكار التخلف لتوجيه الرأي العام بعيداً عن المال الحرام ، والسياسة الحرام ، والخيانة الحرام ، والاستبداد الحرام ، والتبعية الحرام ، وهدر طاقات الأمة الحرام ، ثم توجيه الرأي العام للبحث عن الحرام في لباس المرأة ، أو الرجل ، والبحث عن العدو في مذهب هذا ، أو دين ذاك ، وفي الإفتاء بالتكفير ، وهدر الدم من الجميع بمواجهة الجميع ، هكذا تدمّر الأمة نفسها ، بنفسها ، وإذا نبض أي جزء ، بالحياة ، رغم ذلك ، فدبابات الغزو الخارجي على أهبة الاستعداد ….
هكذا ، لا أحزاب سياسية ، ولا سياسة في المجتمع العربي في مصر ، رغم قانون الأحزاب ، ورغم صندوق الاقتراع ، ولهذا فإن السؤال الجوهري في مسألة الديمقراطية ، هو : كيف تبنى الأحزاب ؟ ، كيف ينتخب الشعب من يمثله فعلاً ؟ ، كيف لا ينتخب جلاديه ، ومصاصي دمائه ؟ ، كيف نوّفر العناصر الإنسانية ، والموضوعية ، كحامل للمشروع الديمقراطي الإنساني في مصر ، والوطن العربي عموماً .
هذا هو السؤال ، والإجابة ، برسم الجيل العربي الجديد ، في مصر ، وفي غير مصر ، بين المحيط ، والخليج ، في دنيا العرب ….
حبيب عيسى

أضف تعليق