في الذكرى الرابعة عشرة للرحيل : عصمت سيف الدولة … وحديث متجدد عن المستقبل العربي ..

”  نعترف أننا قد تعمّدنا ، ونتعمّد أن يبقى الباب مشرعاً للدخول إلى بساط الثلاثاء هذه الأيام من بوابة الجمهورية العربية المتحدة المستقبلية ، وأن نتجاوز انفصال النحلاوي ، بالإقليم الشمالي 1961 ، ثم انفصال السادات بإقليمها الجنوبي 1971 ، وبالتالي ، فنحن نتحدث عن جمهورية عربية متحدة ، إفتراضية ، يعّد العدة لها جيل عربي جديد ، وبما أننا اليوم في الثلاثين من آذار – مارس – فإننا في يوم الأرض العربية التي احتضنت في مثل هذا اليوم عصمت سيف الدولة من الإقليم الجنوبي ، وجمال الأتاسي من الإقليم الشمالي ، وهما رمزان للحلم الوحدوي العربي المتجدّد ، الذي لم ينال منه الانفصال ، شمالاً ، وجنوباً ، سنفرش بساط هذا الثلاثاء بحديث عن عصمت سيف الدولة ، والمستقبل العربي ، حيث كانت قد أقيمت ندوة في “معهد العالم العربي في باريس” تحت العنوان ذاته ، بتاريخ :28/تشرين الثاني – نوفمبر –/ 1997 ،  وكان لي شرف المساهمة فيها بالكلمة التالية ، أضعها بين يدي الشباب العربي ، لاستكمال ملف التوثيق . ”  

( 1 )

 

   ((          السيد الرئيس …..

               السادة الحضور ..

               إنني أشكر لكم هذه المشاركة الممتازة في تكريم شيخ القوميين العرب عصمت سيف الدولة في إطار الحديث عن المستقبل العربي ، فإنني قد اعتقدت دائماً أن الحديث عن عصمت سيف الدولة ، وعن المستقبل العربي ، هو حديث واحد عن مفردتين متداخلتين ، وذلك استناداً إلى اعتقاد راسخ ، بأن منهج ” جدل الإنسان ” هو منهج القوميين العرب التقدميين لانتزاع المستقبل العربي من الأيدي الآثمة التي تضع يدها الغاصبة على الحاضر العربي استبداداً ، وطغياناً ، وهيمنة ، وقرصنة ، واحتلالاً ،  وبالتالي ، فنحن نتطلع اليوم إلى مستقبل الأمة العربية ، وإلى مستقبل الإنسانية جمعاء من منظور إنساني كما رسمه الراحل العظيم ، حيث الإنسان في كل مكان من هذا العالم ، متحرر من العبودية ، والاستبداد ، والاستغلال ، والاستلاب ، وحيث تحيا الشعوب بما تملك ، وتجهد ، وتعمل ، فتحيا الأمة العربية بما تملك ، وتنتج ، وتجهد ، وحيث يختفي من العالم التمييز العنصري  ، والمناطقي ، والطائفي ، والمذهبي ، والطبقي ، والأثني ، والاجتماعي ، وحيث يختفي هذا النظام العالمي القديم ، الجديد الذي استمد قوانينه من أعراف القراصنة ، وتجار العبيد ، ورعاة البقر ، وحيث تسود الإنسانية عدالة اجتماعية يستحقها الإنسان ، الإنسان في كل مكان ، وعلى امتداد الزمان …

( 2 )

 

              وإذا كنت حقيقة ، لا أعرف من أين أبدأ حديثي إليكم ، ولا أعرف أين أضع نقطة ، وأقول انتهى ، ذلك أن الحديث إليكم ، ومعكم ذو شجون ، لا حدود لها ، فأنتم هنا في غربة عن وطنكم ، ونحن هناك غرباء في وطننا ، إنه إذن حديث بين غربتين ، لكن الغربة هنا ، وهناك لا تنتقص من وجود الوطن ، ولا تنال من عظمة الأمة ، وإنما تؤكد أن هناك ، وهنا معركة لم تنته بعد ، هم ، في وطنكم ، وهنا في المغتربات ، وفي كل أرجاء هذا العالم يعتقدون أنهم حسموا المعركة ، فنحن ، كما يرددّون ، لم نعد إلا كائنات شرق أوسطية ، وشمال إفريقية ، لا هوية لها ، لكن ، في المقابل ، مازال في هذه الأمة من يرفع الصوت ، ويقول ببساطة شديدة ، نحن امة العرب ، امة مزروعة في وطن العرب لا ينال من وجودها ، وعظمتها العدوان الخارجي ، ولا تلك السلطات الواقعية العابثة بوجود الأمة ، وتاريخها ، والمنتشرة بين المحيط ، والخليج ، تحت حماية أساطيل العدوان ، ومستعمرات الصهاينة ، والذين تصهّينوا … بل لعلي أقول ، أن ما يجري الآن ، هو شاهد هذا العصر ، يضاف إلى شواهد التاريخ ، بأن كل الذين تطلعّوا للسيطرة على هذا العالم ، قرصنة ، واستعباداً ، كانوا ، ومازالوا يقيسون مدى انتصاراتهم ، وهزائمهم على مدى تحقق هذه ، أو تلك في وطن العرب ، ولهذا فنحن ندرك أن قضيتنا ليست قضية محلية ، هامشية ، في إحدى زوايا هذا العالم ، بل نحن القضية المركزية فيه ، ودولة الولايات المتحدة الأمريكية الزعيم الأوحد للنظام العالمي الجديد ، تدرك أن زعامتها ، وسيطرتها ، وهيمنتها على العالم ، تتوقف على مدى وجودها ، من عدمه ، في الوطن العربي ، وهي تدرك أنها عندما ستضّطر ، لحمل مستوطنات الصهاينة ، والرحيل بها ، من ارض العرب ، ستخسر هيمنتها على هذا العالم بأسره ، وعندما يفعلها العرب مرة أخرى .. ستتغيّر قوانين القراصنة ، ورعاة البقر ، التي يسمونها ، تعسّفاً ، وكذباً ، نظام عالمي ، وقوانين دولية ، وشرعية دولية ، بهذا المعنى ، فإن انتزاع المستقبل العربي ، لصالح الأمة العربية ، يعني تغيير هذا النظام العالمي برمته ، ولهذا ، فإن الرئيس الأمريكي كان يدرك ما يقول عندما اعتبر إرسال جيوشه إلى الخليج العربي عام 1990 كان دفاعاً عن الأمن القومي الأمريكي ..

 

( 3 )

 

                  نحن أيها الأخوة ، والأصدقاء ، وعبر التاريخ المعروف للجماعات البشرية التي كوّنت أمتكم العربية ، ثم ، بعد أن تكوّنت ، لم يكن للعنصرية ، وجود في تاريخنا ، فالدعوات السامية للأنسنة ، والمساواة ، والتسامح بين البشر ، هي ، بلا فخر ، الدعوات التي حملها أجدادكم من الأنبياء ، والقديسين ، والأولياء ، والحواريين ، والصحابة ، والمفكرين ، والفلاسفة ، والمثقفين ، إلى الإنسانية جمعاء ، ونحن لا نقول هذا ، فوقية ، أو منة ، أو جرياً وراء امتياز على أحد ، لكن ، وبالتصميم ذاته ، نؤكد ، أننا لسنا أمة دونية ، حقوقها سائبة ، ينتهك سيادتها كل من هبّ ودبّ ، في هذا العالم ، إننا نرفض أن  ينالنا نحن من الأذى ، ما نرفض أن ينال أي جماعة بشرية في هذا الكون ، منه ، نرفض مبدأ الهيمنة ، والإرهاب الدولي بالأساطيل ، وحاملات الطائرات ، والمجسّات الفضائية ، ولا نقرّ بالعدوان على أمتنا ، سواء كان من الخارج ، أو بالتواطؤ مع سلطات الأمر الواقع ، وإننا إذ لا نقر بشرعية هذا العدوان بالدول الواقعية ، غير المشروعة ، على أمتنا العربية ، فإننا نرفض أي قيد على حق الأمة العربية في بناء دولتها القومية المشروعة المتسقة الحدود مع حدود الوطن العربي ، أرضاً ، ويتسق وجودها بانتماء جميع أبناء الأمة العربية إليها ، بشراً ، حيث يختارون بإرادة حرة ، وديمقراطية سلطة مشروعة ، تمثل إرادة الناس ، وتضع الأنظمة ، والقوانين ، بما يحقق المساواة ، والعدالة ، والتكافؤ ، استناداً على ثقافة الأمة الحضارية ، لمنح الديمقراطية الأسس الإيجابية المستمدة ، من الواقع الاجتماعي ، والإنساني ، والمادي ، للأمة العربية .

 

( 4 )

              أيها السادة ..

              لقد جرب النظام الإقليمي السائد في الوطن العربي ، على مدى نصف قرن ، أن يطرح نفسه بديلاً عن دولة الأمة الواحدة ، للخداع ، والالتفاف على مشاعر الجماهير العربية ، باعتبار أنه يحمل مشاريع الاستقلال ، والتنمية ، والعدالة الاجتماعية ، وتحرير فلسطين ، وتحقيق الديمقراطية ، وبالتالي فإن الدعوة إلى دولة الوحدة العربية لا مبرر موضوعي لها ، طالما أن النظام الإقليمي قادر على تحقيق كل ما تعد فيه دولة الوحدة العربية … الآن ، وبعد نصف قرن ماذا حقق النظام الإقليمي في الوطن العربي …؟!

o       الاستقلال الذي دفع الشهداء العرب دماء غزيرة لتحقيقه ، تحّول إلى استقلال حقيقي فقط بين الأجزاء العربية ، بين ما يسمى دول الشرق الأوسط ، بينما التبعية لقوى الهيمنة الدولية ، الاستعمارية سابقاً ، وصلت حد التوحد أحياناً ، وتجاوزت المعدلات التي كان يحققها الوجود الاستعماري المباشر ، والاستبداد الذي أعقب حقبة الاستعمار تجاوز في وحشيته على الشعب العربي ، وحشية الاستعمار المباشر ، أغلب الأحيان ..

o       أما التنمية فقد ارتبطت بحاجات أسواق دول الهيمنة الاستعمارية سابقاً ، مما أدى إلى تخمة القلة ، وإفقار الأغلبية في الوطن العربي ..

o       العدالة الاجتماعية ، والديمقراطية ، والمساواة ، وحقوق الإنسان العربي ، والحريات العامة .. جميع تلك المقوّمات الأساسية للتطور ، والتقدم ، والنمو تحولت إلى فولكلور يمارسه المستبدون قهراً ، وتعسفاً ، وقمعاً …يضخوّن الفساد في المجتمع العربي ، مقابل ضخ الثروات لدول الهيمنة ، الاستعمارية سابقاً ، وإذا كان هنا ، في هذا الغرب ، انطلاقاً من المكان الذي نحن فيه الآن ، في باريس ، من يتحدث حقيقة عن الديموقراطية ، وحقوق الإنسان ، في وطننا العربي ، فإن الإنصاف يقتضي أن نصارحه ، بأن ما يجري في بلادنا ، من انتهاك للإنسانية ، وللحقوق الأساسية ، في شتى ميادينها ، هو بعض من “الفضائل” التي ذرعها النظام الاستعماري ، في وطننا ، وهذا الحصاد ، من ذاك الزرع ..

o       أما تحرير فلسطين ، فإن النظام الإقليمي في الوطن العربي ، وعلى امتداد نصف قرن من الزمان ، يقف حائلاً بين الشعب العربي ، وبين تحرير فلسطين ، حتى أننا نستطيع القول ، أن دولة المستوطنات الصهيونية ، في فلسطين ، قامت ، واستمرت ، وتوسعت ، واعتدت ، وقتلت ، وتقتل ، بحماية ، ومساندة النظام الإقليمي في الوطن العربي أحياناً ، وبمشاركته ، أحياناً أخرى ، وأن كل طرف من تلك الأطراف – الإقليمي والصهيوني – ينفذ نصيبه ، من مخطط تجزئة الوطن العربي .. والدور الأساسي الموكل للنظام الإقليمي “العربي” هو ممارسة الاستبداد ، والطغيان ، والقهر ، والقمع على الشعب العربي ، كي يبقى عاجزاً عن امتلاك إرادة التحرر ، والتحرير ، والمؤسف ، أن هذا القهر ، والقمع ، والاستبداد تتم ممارسته تحت عناوين تحرير فلسطين ، وكأن فلسطين ، لا يمكن أن تتحرر ، إلا بقهر ، وقمع الشعب العربي … وعندما فعل القمع ، والقهر ، والاستبداد ، فعله ، بات إشهار العلاقات العلنية بين النظام الإقليمي “العربي” ، والكيان الصهيوني ممكناً ، وعلى الرحب والسعة …

 

( 5 )

 

            أيها السادة …

            إذا كان هذا هو الواقع العربي المرّ ، فقد تتساءلون عن أي مستقبل عربي نتحدث ..؟ ، وهل يكفي القول ، أن الواقع العربي الراهن لا يعجبنا ، وأننا نريد مستقبلاً عربياً مختلفاً ، دون أن نمتلك أية أدوات حقيقية ، للفعل الإيجابي في هذا الواقع ، لتغييّره إلى حيث يجب ..؟

            أوّد ، أولاً ، أن أشير إلى أن هناك خلط مقصود بين مستقبل الأمة العربية ، وبين حاضر الدول الفعلية القائمة في الوطن العربي ، أو ما نسميه النظام الإقليمي في الوطن العربي .. وبالتالي ، محاولة إلصاق كل ما فعله ، وما يفعله هذا النظام الإقليمي ، من جرائم ،  بالأمة العربية ، فهزائمه ، وفساده ، وطغيانه ، وتبعيته ، وفشله ، هو عدوان على الأمة قبل أي شيء آخر ، والأمة بريئة منه ، وهذا يعني أن مستقبله ، نقيض مستقبلها .. فالنظام الإقليمي في الوطن العربي ، قد انهار تماماً ، ولا أقصد ، أنه ، قد انهار مادياً ، فهو الآن في ذروة إحكام سيطرته على مفاصل الحياة في الوطن العربي ، والقبض على عنق الأمة ، لكنه ، قد انهار تماماً ، من حيث تقييمه بالاستناد إلى ادعاء ذلك النظام الإقليمي ، الذي خلف الاحتلال الاستعماري المباشر للأمة العربية ، بأنه سيعمل لتحقيق الاستقلال ، والتنمية ، والحرية ، والديمقراطية ، ولأنه فشل في تحقيق أي من تلك الأهداف ، قلنا ، أنه انهار تماماً ، فقد بات واضحاً ، أن كافة الإدعاءات الإيديولوجية ، والعقائدية ، للتجزئة ، التي أدعتها السلطات ، والأحزاب ، والجماعات الإقليمية في الوطن العربي ، والتي حاولت تسويق هذا النظام الإقليمي في الوطن العربي ، كانت مجرد إدعاءات فارغة من المضامين ، الهدف منها مجرد مجابهة مشروع النهوض ، والتنوير التوحيدي العربي التقدمي ، بل أكثر من ذلك ، فقد أثبتت التجارب المرّة ، أن هذا النظام الإقليمي في الوطن العربي ، عصّي على الإصلاح ، لا من داخله ، ولا من خارجه ، ولا بأية وسيلة ، من الوسائل ، وأن على العناصر الإيجابية الحية في هذه الأمة ، أن تعتمد الوسائل ، والأدوات المناسبة ، للتغييّر ، ووضع البرامج ، والخطط التي تتناسب مع الظروف الراهنة ، للخروج من المحنة … ، ولهذا ، قلت لكم ، أننا ، وجماهير أمتكم العربية في الوطن ، في غربة حقيقية ، وأن القوى الحية في أمتكم ، تتلمّس طريقها ، للخروج من المحنة ، وهذا بحد ذاته بالغ الدلالة على أن المعركة الدائرة حول المستقبل العربي مفتوحة على كافة الاحتمالات بين الأمة العربية من جهة ، وبين قوى التحالف المتمثلة بقوى الهيمنة الدولية ، والنظام الإقليمي الاستبدادي في الوطن العربي من جهة أخرى ، وإذا كانت الأمة العربية مكبلة بالقيود الإقليمية الطاغية للنظام الإقليمي ، فإن الطرف الآخر ، من أول أنظمة الفساد ، والاستبداد في الوطن العربي ، إلى آخر جيوش دول الهيمنة الدولية ، مدججة بالسلاح ، والإمكانيات اللامحدودة ..

 

( 6 )

 

              إن هذا كله ، يحتمّ البحث عن المشكلة في إعادة تأهيل المجتمع العربي ، للنهوض ، والتنوير بعد سلسلة من الانكسارات ، والهزائم التي تسبّب بها النظام الإقليمي في الوطن العربي ، والتي طالت تهديد النسيج الاجتماعي في الوطن ، عن طريق النكوص ، عن المواطنة ، إلى علاقات التخلف ، الإثنية ، والطائفية ، والمذهبية ، والإقليمية ، وهنا ، أدعوكم ، بل أحرضّكم على أن تنفضّوا عن الفرجة على جراح أمتكم ، من خلال الشاشات ، ومحطات البث ، والانخراط ، من جديد ، في معارك تحصّين الأمة ، واستنهاضها ، واستعادة فاعلية الشارع العربي ، بانتشاله من حالات الإحباط ، واليأس ، والاستلاب ، والخوف .. ، وإذا كنت قد بدأت حديثي ، بتعريفه ، أنه حديث بين غربتين ، فإنني أعترف أمامكم ، الآن ، أنكم هنا ، في المغتربات ، قد تكونون الأقدر ، والأجدر ، على التدخل ، لإعادة التوازن ، وتوجيه دفة الصراع ، ذلك ، أن هذا التنوع الجميل الذي أراه هنا ، في اللهجات ، والأفكار ، وتوفر عوامل إعمال قانون الجدل الاجتماعي ، نفتقد تحقيقه في الوطن العربي ، ذلك أننا هناك في حظائر الإقليمية ، وانتشار أوبئة الفتنة ، والتفتيت ، والإقصاء ، والاستئصال ، والقمع ، نفتقد هذا الظرف الموضوعي الإيجابي ، الذي يتحقق بينكم الآن ، فأنتم هنا من المحيط إلى الخليج ، في قاعة واحدة ، تتاح لكم فرصة اللقاء ، بدون حدود ، ومن المعيب أن لا تستثمرون ذلك ، بما يؤدي إلى استئناف مشروع النهوض ، والتنوير في أمتكم ، لأن أي جهد إيجابي من قبلكم ، سينعكس ، إيجاباً ، على الواقع في وطنكم ، قد يقول البعض أن القضية معكوسة ، وأن النهوض في الوطن هو الذي سينعكس إيجاباً على الأوضاع في المغتربات ، وهذا في الأحوال الطبيعية ، صحيح ، لكن في الظروف الاستثنائية التي تعيشها أمتكم في الوطن من حيث التغوّل في القمع ، ومصادرة الحريات ، وحقوق الإنسان الأساسية ، يجعل من أوضاعكم في المغتربات ، أقدر على الفعل ، والتفاعل الإيجابي مع الظروف الموضوعية السائدة … وبالتالي ، فإنني أدعوكم لمغادرة خنادق الصراعات ، والفتن الزائفة ، التي يحاول النظام الإقليمي في الوطن العربي ، بدعم لا محدود من قوى الهيمنة الدولية ، إغراقكم في وحولها ، والمباشرة حالاً بتشكيل رافعة لمشروع النهوض القومي التقدمي العربي ، أدعوكم إلى الانتقال من الفرجة على مأساة أمتكم ، إلى ساحة الصراع للخروج من المأساة ، ثم الانتقال من مرحلة الأسئلة الصعبة ، إلى البحث الجدي عن إجابات ، ثم الانتقال ، من مرحلة وضع الحلول للمشكلات ، إلى مرحلة تنفيذ الحلول في الواقع ، وامتلاك الأدوات ، للتنفيذ الجاد …

 

( 7 )

 

              أيها السادة الأعزاء ..

              إننا نلتقي اليوم هنا ، في معهد العالم العربي في باريس ، على هامش الذكرى العطرة لشيخنا عصمت سيف الدولة الذي أعطى عمره كله ، لوضع الأسس ، والنواميس ، لانطلاق مشروع النهوض ، والتنوير القومي العربي ، التقدمي ، في شتى المجالات ، من أول التحرير ، إلى التنمية ، والعدالة ، والمساواة ، والحرية ، وحقوق الإنسان …والوحدة ، ونحن ، نجد في التراث الغني الذي تركه لنا ، ما يمكن أن يضع أقدامنا على بداية الطريق الصحيح ، للخروج من المحنة ، وإنهاء حالة الاستلاب ، والشيزوفرانيا الحادة ، التي تشل حركتنا ، بين القول والفعل ، فقد حدّد لنا :

            أولاً : أن وحدة الوجود القومي للأمة العربية ، تحتمّ وحدة الدولة فيها ، بمعنى أن الدولة القومية ، التي تشمل الشعب ، والوطن ، كما هما محددان تاريخياً ، هي وحدها الدولة المشروعة التي تجسد سيادة الشعب العربي على وطنه القومي ، ومشاركته التاريخية فيه …

            وحدّد لنا ، ثانياً : أن التقييّم القومي ، للدولة الإقليمية ، أنها  رجعية ، وفاشلة ، وهذا يصح بالنسبة إلى جميع الدول الإقليمية ، دون استثناء ..

             وحدد لنا ، ثالثاً : أن الأحزاب الإقليمية هي نماذج مثالية للفشل ، لأن أقصى نجاح لأي حزب إقليمي ، هو أن يستولي على السلطة في دولته الإقليمية ، والتي هي ذاتها مؤسسة فاشلة ، فإذا ما فشل في الاستيلاء على السلطة ، فهو أكثر فشلاً من الحاكمين أصحاب الدولة الإقليمية …

            وحدد لنا ، رابعاً : أن فلسطين ، كجزء من الوطن العربي ، إقليم مملوك ، ملكية مشتركة للشعب العربي كله ، وليست ملكاً خاصاً لشعب فلسطين ، وأن هذا الجيل من الشعب العربي كله ، ومن باب أولى شعب فلسطين وحده ، لا يملك الحق في التنازل ، أو التفريط ، أو المساومة على حرية فلسطين ، وأن مسؤولية تحرير فلسطين واقعة على الشعب العربي كله ، وليس على الشعب الفلسطيني وحده ، وأن كل الاتفاقيات ، والمعاهدات ، أو القرارات ، والدساتير ، والمواقف ، والتصريحات ، سواء كانت صادرة عن دولة أجنبية ، أو عن دول عربية ، في الماضي ، أو الآن ، أو في المستقبل ، تمس حرية فلسطين ، غير مشروعة قومياً ، فهي ليست حجة على الأمة العربية ، ولا قيداً على حقها في تحرير فلسطين ..

            وحدد لنا خامساً ، وعاشراً ، الأسس ، والمنطلقات ، والغايات ، واقترح الأساليب ، والأدوات ، لكن المشكلة ، كانت ، ومازالت فينا ، في تركيبتنا البنيوية ، وقد آن الأوان ، أن نعالج تلك المشكلة ، ونعود إلى ساحة الفعل ، والحركة ..

 

( 8 )

 

            إن هذا كله ، أيها العزاء ، يضعنا وجهاً لوجه أمام المهمات الصعبة ، وعلينا أن لا نهاب مواجهة تلك المهام الصعبة …

–          إنني أدعوكم ، وأدعو نفسي أولاً ، للانتقال من حالة الفردية ، التي تمثل مرحلة العجز والمحنة ، إلى بناء المؤسسات الديمقراطية حزبياً ، وسياسياً ، وثقافياً ، لأن العمل الجماعي ، الديمقراطي المنظم ، وحده ، هو الذي ينقلنا إلى مرحلة الفعل ، والتأثير في الواقع ، لتغييّره ، باتجاه مصير عربي مختلف …

–          أدعوكم لأن يختار كل عربي ، ما يرغب ، هو ، أن يقدمه لأمته ، ووطنه ضمن حدود مقدرته ، صحيح أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ، … لكن ما بوسعها ، هو مطرح للتكليف ..

–          أدعوكم لبناء منتدى ثقافي قومي عربي ، يلمّ شملكم ،  في المغتربات ، لتفعّيل قانون الجدل الاجتماعي ، بينكم ، ونحن سنحاول ذلك في مدن الوطن ، وبلداته ، حيث كان ذلك ممكناً ، وأنني أجتهد ، وأقدّم لكم نظاماً تأسيساً لمثل هذا المنتدى ، أطرحه للحوار العام بين الراغبين في تأسيس المنتدى الثقافي العربي ، للأخذ ، به ، أو تعديله ، أو وضع نظام تأسيسي بديل ، حسب الظروف الموضوعية ، المهم ، أن تقوم المؤسسة الثقافية العربية …

–          أدعوكم لتأسيس لجنة قومية لأصدقاء عصمت سيف الدولة تعمل على نشر منهج جدل الإنسان ، ونظرية الثورة العربية ، ووضع أفكار عصمت سيف الدولة تحت يد الشباب العربي ، وإتاحة أوسع الفرص للحوار ، والجدل الاجتماعي حولها ..

–          أدعوكم ، وأحرّض الشباب العربي في المغتربات ، وفي الوطن ، للمباشرة ، حالاً ، بتأسيس ” الطليعة العربية ” تنظيماً قومياً تقدمياً ، بما يتلاءم مع الظروف الموضوعية ، على أسس منهجية ، وعقائدية واضحة ، مستجمعاً شرائطه الشكلية ، والموضوعية ، ليكون قادراً على حمل عبء النهوض بالأمة ، وإبداع الأساليب ، والوسائل اللازمة ، والممكنة ، في ظل الأوضاع الراهنة ..

–          أدعوكم ، وأدعو الشباب العربي عامة ، أن تولوّا وجوهكم شطر المستقبل ، وإلى التعامل مع الماضي ، وفق منهج النهضة ، والتنوير ، فالماضي جامد ، لا يمكن الفعل فيه ، أو تغييره ..وبالتالي ، فإنه سيبقى مجالاً للتقييم وعلينا أن نقرأه ، ونستخلص منه العبر ، والدروس ، لا أن نعيشه ، كما حرّفه صانعوا الفتن ، بينما الحاضر ، والمستقبل ترتع فيه القوى المعادية ، للأمة .. فلنترك معارك داحس ، والغبراء ، ومعارك الجمل ، وصفين ، وملاحم كربلاء ، والمدينة ، وصولاً إلى صراعات ملوك الطوائف ، والمذاهب ، والأثنيات ، للبحث العلمي ، وللمراكز المتخصصة في الجامعات ، والمعاهد ، وأن يلتفت الجميع ، وخاصة الجيل العربي الشاب إلى معارك الحاضر ، والمستقبل ، كي يكون حاضراً ، ومستقبلاً عربياً ، بامتياز ..

 

( 9 )

 

        أيها السادة .. أيها الأعزاء ….

        أشكر لكم إحياء الذكرى العطرة التي تركها ، لنا ، وفينا ،عصمت سيف الدولة ، فهو كان يحثنا دائماً على العمل الإيجابي في الواقع ، عندما كنا نقول له : نحن ، كان يبادر فوراً للسؤال .. “مين انتوا” ..؟ وكنا نتلعثم في الجواب .. ، وكان يحرضّنا لتحديد الجواب ، لقد آن الأوان ، كي نعرف من نحن ..؟ ، لنكون جديرين بالانتماء إلى أمة عربية عظيمة ، لا تستحق أن تعيش المحنة التي طالت أكثر مما ينبغي ، وبذلك ، فقط ، نكون جديرين بالانتماء إلى منظومة فكرية بالغة الثراء والإحكام والتماسك زرعها فينا عصمت سيف الدولة ، وقد آن لها ، أن تنبت ، وتزهر ، وتثمر .. فتحية له ، وشكراً لكم ….       ))

باريس : معهد العالم العربي : 28 تشرين الثاني – نوفمبر 1997

                                                                                                                                                                    

( 10 )

 

            أيها الشباب العربي …..

            لقد كان ما تقدم ، حديثاً اقتضته الظروف بعد عام ونصف على رحيل عصمت سيف الدولة ، الآن ، نحن في الذكرى الرابعة عشرة للرحيل الحزين …، لا أعرف إن كان ما قلته في تلك الأيام الحزينة ، يستحق القراءة في هذه الأيام الأكثر حزناً ، لكنني أضعه بين أيديكم …من منطلق التوثيق ، لا أكثر … ذلك أنني أستشعر أهمية أن نسلمّكم ملفاتنا كاملة ، خاصة ، وأننا على أبواب الرحيل ….

– أما اليوم ، فهو 30/آذار – مارس – يوم الأرض العربية …

– بحجارة الأرض حفر أطفال العرب هذا اليوم على جدار الزمن …

– في هذا اليوم 1996 احتضنت الأرض العربية أبنها البار ، المناضل ، عصمت سيف الدولة …

– في هذا اليوم 2000 احتضنت الأرض العربية أبنها البار ، المناضل ، جمال الأتاسي …

– “الجمهورية العربية المتحدة”  مستقبل آت ، بوعيكم ، ونضالكم ، وليست تاريخاً مضى … النداء ، لكم أيها الشباب العربي ، النداء ، ليس لمن يبكيها ، وإنما لمن سيشيد صرحها شامخاً في المستقبل العربي …. ، النداء لمن يبنيها ، لا لمن يبكيها ……….

دمشق : الثلاثاء – 30 /آذار – مارس -/2010 .

                                                                                          حبيب عيسى

 

E-mail:habib.issa@yahoo.com

أضف تعليق