مصر الحرية :الحلم … والقلق …!

على بساط الثلاثاء

113

مصر الحرية :

الحلم … والقلق …!

( 1 )

على مدى عقود أربعة لم توفرّ القوى الطاغية التي تبسط يدها الغاصبة على الوطن العربي وسيلة ، أو سلاحاً ، أو فتنة ، أو عدواناً من أول أسلحة الفتك الشامل بالبشر التي تنتجها مصانع الأسلحة الدولية ، إلى آخر مخلفات وتداعيات الصراع في العصور العربية المنقرضة ، القديمة ، إلا واستخدمتها لمنع احتمال أي شكل من أشكال الثورة أو التمرد في الوطن العربي ، ولعلنا لا نبالغ إذا اعترفنا أن تلك القوى الطاغية سواء في الداخل العربي ، أو من الخارج الإقليمي والدولي ، على الاتحاد والانفراد ، قد تمكنت على مدى تلك العقود من إغلاق أبواب الحلم عند ثلاثة أجيال عربية متعاقبة ، فغاب السؤال عن المستقبل العربي المنشود ، وحل مكانه السؤال القلق عن الحاضر : كيف نحافظ على الوجود البيولوجي ؟ ،وفي أحسن الأحوال : كيف ندفع المخاطر المحيقة به ؟ ،باختصار شديد لم تكن المسألة بالنسبة لجيلنا بعد التجارب المرة : ماذا ، وكيف نبني ونضيف بنياناً جديداً ؟ ، ولكن تم اختصار القضية : بماذا وكيف نحمي البناء القائم كي لايتهدم على رؤوسنا ؟ ، وكيف لا ننزلق إلى الأسوأ ؟ لم يعد السؤال : كيف وبماذا ننتقل من دول سايكس وبيكو وسان وريمو …و … إلى دولة الأمة العربية الواحدة ، وإنما بات السؤال كيف نواجه مخططات تفتيت تلك “الدول الفعلية” إلى كونتونات الطوائف والمذاهب والأثنيات ؟ ، وقد تم التعبير عن ذلك بلغة السياسة ،فظهرت مصطلحات : انحسار المشروع النهضوي العربي ، أو انحسار المشروع القومي العربي التقدمي ، أو حتى مصطلح خروج العرب من التاريخ ، وهكذا …

لقد عبرت تلك القوى الطاغية التي تبسط يدها الغاصبة على الوطن العربي عن نفسها عبر مؤسسات ونظم مختلفة من حيث الشكل لكنها منضبطة موضوعياً في إطار قاسم مشترك متفق عليه بين الملكيات والجمهوريات والسلطنات والجماهيريات ، هو تجريد المجتمع من جميع الوسائل والأدوات والأمكانيات والمؤسسات التي يمكن أن تعبّر عن إرادته وقراره ،إلى درجة تعريته تماماً ، فلم تعد المسألة بالنسبة إليه ، كيف يحقق حلمه ، وإنما في أحسن الأحوال ، كيف يداري عوراته …؟.

( 2 )

هذا الواقع الموضوعي العربي أدى إلى دخول المجتمع العربي في حالة من الاستلاب والخوف والتواري ، فنتج عنها عنصرين متلازمين :

الأول : التخلف ، لأن المجتمعات لا تعرف التوقف ، فانعدام المقدرة على التقدم يعني التخلف ، لأن التقدم الاجتماعي يتم قياسه بالنسبة لعصر محدد في زمن معين …

الثاني : تسهيل انقياد المجتمع ، واستلاب إرادته ، وتم ترجمة ذلك عبر إخراج المجتمع من العصر الراهن ، والانكفاء به إلى علاقات عصور منقرضة مما يسهل انقياده لقوى الطغيان ، سواء كانت مستبدة ، أو محتلة إلى درجة يبدو معها المجتمع ، وكأنه يتقبل بكل الرضى الاستبداد ، وحتى الاحتلال دون أي شعور بالمهانة ، بل يمكن تسييره بمسيرات مليونية لتمجيد الطغاة ،وحتى الغزاة ، إذا لزم الأمر… أما إذا بدرت أية محاولة للتمرد من قبل المجتمع ، فيمكن تفريغها عن طريق افتعال فتن وصراعات بين مكونات المجتمع ذاته ، حيث يدمّر المجتمع نفسهبنفسه ، وينعم الطغاة والغزاة في التحكم بمقدّراته ، ونهب ثرواته ، وإفساده إلى درجة الاستعباد …

( 3 )

هكذا اجتاز العالم عتبة القرن الواحد والعشرين وهو ينشد الانعتاق من الاستغلال والعنصرية والنظم المستبدة وينشد الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والتخلص من رواسب عصور القرصنة والهيمنة وبدأت شعوب في أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا تنشد التقدم والتطور ، وحده الشعب العربي بدا وكأنه يجتاز عتبة القرن الواحد والعشرين ، وهو يعود القهقرى إلى ماقبل سايكس بيكو ووعد بلفور والاحتلال الأوربي والعثماني والمغولي يوجع ظهره ضرباً بسياط صفين والجمل وداحس والغبراء وقبائل عبس وملاحم الزير سالم وتغريبة بني هلال … فبعدت المسافة بين العرب والعالم المتقدم أصلاً الذي واصل تقدمه وراكمه ، وصعدت الشعوب من أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا التي كانت إلى سنوات قريبة أكثر تخلفاً من  العرب ، فتجاوزتهم ، لتلحق بركب التقدم العالمي …

( 4 )

هذا الواقع العربي المرير المُستلب ، حيث لا إرادة عربية ولا قرار عربي ، بدأ يفرض نفسه موضوعياً مع الانقلاب على الثورة في القاهرة مع بداية عقد السبعينات من القرن الماضي ، صحيح أن مشروع النهوض والتنوير كان يعاني من موجات عدوانية متلاحقة تقودها قوى مضادة قوية وفاعلة أدت إلى إنفصال الأقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة ، ثمإلى هزيمة 1967 ، لكن الصحيح أيضاً أن مشروع النهوض …كان يعاني أيضاً من أزمات ذاتية تتعلق بتأصيل منهج النهوض والتحرير وأدواته وأساليبه ، وكان من المتوقع معالجة ذلك بعد إزالة آثار العدوان ، إلا أن الانقلاب الذي فاجأ الجميع في القاهرة مع بداية عقد السبعينات من القرن المنصرم أطاح بمشروع النهوض والتحرير العربي ، وحوّل القاهرة من قاعدةانطلاق للمشروع العربي إلى قاعدة للهجوم عليه ، وساد هذا الواقع اللاعربي البالغ السواد ، والموصوف سابقاً ، والذي امتد على مدى العقود الأربعة المنصرمة ، وكانت المعادلة الأساسية تتمثل في استقرار آلية النظام بكامل عدته ووظائفه في القاهرة ،لتستمر حالة الاستلاب والسكون والتخلف في المجتمع العربي ،وفي المقابل كان الذين يراهنون على استئناف مشروع النهوض والتنوير العربي يتطلعون إلى الكنانة ليبدأ المشوار بها ، ومنهامرة أخرى …

( 5 )

هكذا أعترف أنني منذ أربعين عاماً أنتظر هذا اليوم …لقد رحل الكثير من جيلنا قبل أن يشاركوننا الدموع والفرح والقلق الذي نعيشه هذه الأيام ، والكثير منا كان قد تملكه اليأس، واستعد للمغادرة حزيناً … لكن تبين أن جيلنا ، الذي تعرض لرضوض سيكولوجية حادة ، لم يكن يفهم عناصر القوة في الجيل العربي الجديد ، ولا يعرف عناصرها ، كان جيلنا قد تجمّد فهمه لعلم الثورة ، ودروب الحرية بما اكتسبه من معارف عن التنظيمات السرية ، والتنظيمات المسلحة ، والانقلابات العسكرية، والنظم الثورية ، والزعيم الملهم ، والرمز الفرد ، والكاريزما المؤثرة ، ولم يدرك جيلنا أن الزمن قد تغيّر ، وأن العصر هو عصر الشعوب ، وأن عصر الانقلابات العسكرية والعصابات المسلحة ، والأحزاب المؤدلجة السرية قد ولى … إلى أن أشعل البوعزيزي تلك الشرارة ، وحتى بعد ذلك ، لم يكن جيلنا يدرك أن لهيب تلك النيران ستتجاوز جسمه النحيل ، لتلتهم هذا الهشيم واليباس الذي راكمه الطغاة والغزاة في أرجاء الوطن العربي ، إلى أن هرب طاغية تونس ، بينما يبحث طاغية مصر عن مهرب … عندها استفاق العرب من المحيط إلى الخليج ، وكأنهم لايصدقون ، هل نحن في حلم أم في علم ؟ ، ثم حرر الشباب العربي ميدان التحرير في القاهرة بما يشبه الإعجاز يقيمون مجتمع ويفرضون قيماً وعلاقات إنسانية بالغة الثراء أين منها ماقرأناه عن كومونة باريس أو ثورة …. أو …. كل هذا يجري والطاغية لم يهرب بعد وقوى الهيمنة الإقليمية والدولية لايفهمون مايجري ، والجميع يسأل عن قيادة الثورة ، فلا يعثر عليها أحد ،لماذا لاتريدون ان تفهموا أن هذه الثورة لاتتحلقّ حول رمز ، ولا يقودها حزب ، جميعهم في ميدان التحرير رموز ، جميعهم مشاريع شهداء ، جميعهم مشاريع قادة ، هم الحكماء ، هم الثوار، هم القادة ، هم الذين يفهمون في القانون ، والدساتير والشرعية ، والمشروعية ، والديمقراطية ، والحرية ، والتقدم ، هم المستقبل ، وكل من يزحف إليهم عليه أن يتعلم إذا كانت جملته العصبية مازالت قادرة على الإستيعاب … كما في تونس …

( 6 )

لقد حلمت بهذا اليوم منذ أربعين عاماً ، وكان أقرب المقربين يجزم أنني واهم ، وأنني لم أراه … الآن ، رأيته ،ورأيتهم استمعت إليهم ، سالت دموعي ، كما لم أعهدها غسلت كل أحزاني ، يكفي أنني عشت بداية عصر هؤلاء الشباب العربي الرائع ، ورغم القلق ، وإدراك المخاطر ، والخوف من مكائد قوى الغدر والعدوان ، ستنتصر ثورة الشباب العربي ، لا أعرف لماذا يسكنني شعور بالاطمئنان ، لاحدود له ، بأن الجيل العربي الجديد قد خرج من تحت عباءة جيلنا ، وهزائمه ، وخيباته، وأن هذا الجيل العربي الجديد سيعرف كيف يبني جمهورية عربية متحدة تشمل وطن الأمة وشعبها بين المحيط والخليج تحقق العدل والمساواة والتقدم والحرية … وسيعرف كيف يحافظ عليها ويحصنها من عوامل الانفصال ، قد لايمتد بي العمر كي أحتفل بها ، لكنني سأغادر وأنا على يقين أنهم سيشيدون بنيانها الشامخ ….

( 7 )

لهذا قلنا في حديث الثلاثاء الماضي : لاصوت يعلوا على صوت الشباب العربي في ميدان التحرير بالقاهرة وميادين التحرير في الإسكندرية والسويس والإسماعيلية والمحلة وطنطا والمنصورة وأسيوط والأقصر ودمنهور والكاف وتونس والقيروان وصفاقص وابوزيد والقصرين  ، الكلام لهم ، والرأي لهم ،  لهم المجد ، وللشهداء وللدماء الطاهرة ننحني إجلالاً واحتراماً …والثورة مستمرة ، وغداً يوم جديد … يوم عربي آخر …!

حبيب عيسى

E-mail:habib.issa@yahoo.com

أضف تعليق