ميثاق 17 نيسان ” أبريل ” 1963 :”جمهورية عربية متحدة” … ثانية …تم وأدها .. في المهد …!

(1 )

لقد أكدنا ، ونؤكد ، “ونحن في ذكرى عن سورية” ، أن جلاء جيوش الاحتلال المباشر عن جزء من الوطن العربي ، كان يجب أن ينظر إليه ، ويتم التعامل معه على أنه الخطوة الأولى باتجاه الحرية ، التي لن تتحقق إلا بقيام دولة العرب الواحدة ، التي تتطابق حدودها مع حدود الوطن أرضاً ، ومع حدود الأمة شعباً ، بل أكثر من ذلك ، كان لابد من الانتباه إلى أن استقرار الدول الفعلية التي تحتل الوطن العربي ، وتختطف الشعب العربي ، وتسجنه في كونتونات ، تتسع ، وتضيق حسب الحاجة ، يعني ، أن الغاية من الاستعمار المباشر قد تحققت ، وبالتالي لا جلاء ، ولا يحزنون ، ولا مكان للاحتفال بالاستقلال ، أو بالسيادة ، أو بالتحرر .. ذلك أن الاحتلال المحلي قد يكون أخطر من الاحتلال الأجنبي في أحيان كثيرة … لهذا ، فإن إرادتنا اتجهت في حديث الثلاثاء الماضي ، والآن ، وفي الحديث القادم ، أن نتعامل مع يوم السابع عشر من نيسان ” إبريل ” 1946 ضمن هذا المعيار ، فالشعب العربي الذي احتفل في هذا الجزء من الوطن بجلاء جيوش الاستعمار الفرنسي ، بادر على الفور للمساهمة في مقاومة المشروع الصهيوني في فلسطين ، وأجمعت جميع مكونات المجتمع على اعتبار ” دولة سورية ” هي جزء من الوطن العربي ، أرضاً ، وجز من الأمة العربية ، شعباً ، وتم النص في مقدمة الدستور الذي تمت صياغته في عام 1951 على ان الشعب العربي في سورية يناضل لتحقيق الوحدة العربية ، ثم انطلق هذا الشعب عبر منظمات حزبية أحياناً ، وعبر تجمعات غير منتظمة عفوية ، أغلب الأحيان ، ليشكل قوى ضغط هائلة فرضت الاشتراك في معارك فلسطين المستمرة ، وفي معارك بور سعيد عام 1956 وتوّج نضاله بإقامة “الجمهورية العربية المتحدة” 1958 ، وقاوم مؤامرة الانفصال 1961، وكان هذا الجزء من الشعب العربي في سورية ، حلقة مهمة ، من جماهير عربية تموج حركتها بين المحيط ، والخليج ، باتجاه الحرية ، والنهوض ، والتنوير ، والوحدة ، والعدالة ، والمساواة ، فتحولت جريمة انفصال الأقليم الشمالي عن الجمهورية العربية المتحدة إلى حافز للمواجهة ، ثورة في اليمن تقاوم الاحتلال البريطاني المباشر للجنوب على باب المندب ، ويهدد الاحتكارات النفطية في الجزيرة العربية ، وثورة في ظفار على الخليج العربي ، ومقاومة تطرد الاستعمار الفرنسي من الجزائر ، وحكام ترتعد فرائصهم من جماهير أحرار ، ومن ضباط أحرار ، وحتى من أمراء أحرار ..ثم انقلاب في 8 شباط ” فبراير ” 1963 في بغداد يعلن التوجه إلى الوحدة العربية ، ثم انقلاب آخر في 8 آذار ” مارس ” 1963، أي بعد شهر واحد في دمشق ، يعلن السعي للقضاء على الانفصال ، والعودة إلى “الجمهورية العربية المتحدة” ..

( 2 )

ذلك كان هو المشهد العربي الذي استولدت منه الجماهير العربية ميثاق 17 نيسان ” أبريل ” 1963 الذي أعلن عن قيام جمهورية عربية متحدة جديدة تضم / مصر ” الجمهورية العربية المتحدة في ذلك الحين ” / ، وسورية ، والعراق ، ذلك “الميثاق” الذي لا يمكن فهمه إلا بقراءة المشهد العربي العام … الذي كان يموج باتجاه النهوض ، والتنوير .. كان جمال عبد الناصر قد أعلن رفض الانفصال ، وأن راية “الجمهورية العربية المتحدة” ستبقى مرفوعة في القاهرة ، أسماً ، ونشيداً ، وعلماً ، بعد أن صارح الجماهير العربية ، كعادته : ” أن الأخطاء هي التي يسرّت للرجعية انقضاضها ، وحصولها على رأس الجسر ، الذي حصلت عليه في دمشق ” ، كان ذلك في خطاب ألقاه يوم 16 تشرين الثاني ” نوفمبر ” 1961 أي بعد أقل من مرور شهرين على الانفصال ، مما دفع المفكر القومي العربي ساطع الحصري ، للقول : ” أنها شجاعة أدبية لا مثيل لها في التاريخ .. لا يستطيع المرء أن يمنع نفسه من الانحناء أمام هذا الإخلاص ، وهذه الصراحة بكل تقدير وإعجاب وإجلال .. ” / ساطع الحصري – الإقليمية جذورها وبذورها / تلك المصارحة للجماهير العربية ، دفعت بتلك الجماهير ، لتحويل جريمة الانفصال 28 أيلول ” سبتمبر ” 1961 إلى محطة انطلاق باتجاه جمهورية عربية متحدة جديدة ، عصية على الاختراق ، والانفصال ، لهذا فإن الجماهير العربية تحولت إلى قوة ضغط هائلة لا يمكن مقاومتها ، دفعت باتجاه مباحثات للوحدة الثلاثية بين ” سورية ، ومصر ، والعراق ” في ثلاث جولات متلاحقة ، خلال شهر واحد ، بين 14 آذار ” مارس ” 1963 ، و14 نيسان ” إبريل ” 1963 توجت تلك المباحثات بتوقيع ميثاق 17 نيسان ” ابريل” 1963 حيث كانت الوفود ما أن تعود إلى بلدانها حتى تندفع الجماهير العربية إلى الساحات العامة ، والشوارع ، تلزمها بالعودة للمباحثات .. وهكذا ولد ذلك الميثاق الوحدوي الهام ، الذي تم ، ويتم تجاهله عن عمد ، رغم أنه يشكل منارة مضيئة في هذا الليل العربي الطويل ، وذلك في محاولة لتهميش المحطات المضيئة في تاريخنا ، وحتى ، في محاولة لمحوها من الذاكرة العربية التي يحشونها هذه الأيام بالفتن ، بتفاصيل التخريب ، والتغريب ، والتصنيم على المستويات كافة ..

( 3 )

لقد كانت الجماهير العربية ، في تلك الأيام ، تنفض الغبار عن كينونتها ، وعن مكوناتها الحضارية ، تلملم جراحها بعد قرون من الخيبات ، والفتن ، والاستلاب ، والطغيان ، والفساد ، والاحتلال متعدد الجنسيات … ، تراجع ، بشجاعة ما جرى ، وتقيمّ ما حدث ، فالفتن ، هي الفتن ، بغض النظر عن القاتل ، والمقتول ، والتخلف هو التخلف ، والمستغلون مجرمون ، والذين يستكينون للاستغلال يشاركونهم الجرائم ، والانتماءات إلى الأقاليم ، والأثنيات ، والقبائل ، والأديان ، والطوائف ، والمذاهب ، لا تتناقض مع الانتماء للأمة التي اكتملت تكويناً ، بالتفاعل ، والتأثر ، والتأثير ، والاختصاص بالوطن ، بين جميع تلك المكونات . كانت الأمة العربية ، قد بدأت تولي وجهها شطر المستقبل بعد سنوات من الاستغراق في الماضي ، وفتنه ، وفي معارك الثأر ، والثأر المضاد ، كان الاتجاه العام في الأمة ، قد بدأ يأخذ المسار الصحيح ، بالتنافس ، باتجاه التحضّر ، والنمو ، والأنسنة ، والمساواة ، والمشترك مع الآخر ، وليس إقصاءه ، أو استئصاله ، كانت الأمة في طريقها للخروج من نفق الانحطاط المظلم ، من كرد شمال العراق إلى سود جنوب السودان ، ومن خزاعل عربستان على الخليج ، إلى طوارق ، وأمازيغ المحيط ، ومن قبائل حمّير ، وتنوخ ، وكندة ، وعبس ، وشمر ، وكلب ، واليمامة في المشرق ، إلى الذين اتجهوا غرباً مع بني هلال ، وبني همّام ، كان التنافس ، باتجاه المواطنة ، والمساواة ، والتصالح مع التاريخ ، ومع الذات ، ومع الحاضر ، ومع الآخر في الوطن ، كان البحث عن القواسم المشتركة ، عن الإيجابي في الآخر ، كان كل طرف يبحث عن دوره ، عن موقعه ، في ركب التحرر ، والنهوض ، والتوحيد العربي ، كان كل طرف يبحث عن دور في شد نسيج المجتمع العربي باتجاه المواطنة ، لدفع العدوان عن الأمة ، وليس البحث عن مهرب منها ، والانضمام إلى قوى العدوان عليها ، كان العرب قد عادوا يكتبون تاريهم بأيديهم ، ويقرأونه ، بلغتهم العربية ، بعد أن كانوا قد تركوه قروناً للمستكشفين الأجانب يقرأونه بالقطعة ، ويقدمّونه إليهم مشوهاً ، مجّزأ ، توطئة لتجزأتهم ، وذبحهم في الحاضر ، والمستقبل ، فاكتشفوا التكامل بين آشور بانيبال ، ورمسيس ، وأخناتون ، وسيف بن ذي يزن ، و”حنابعل” الذي يسمونه “هانيبال” ، ثم ، اكتشفوا التكامل بين بلقيس ، وسميراميس ، ونفرتيتي ، وزنوبيا ، وقريبتها كليوباطرة ، وصولاً إلى إليسّا في قرطاج ، ثم عكفوا على فهم حضاري لجوهر الأيمان ، عبر أجدادهم من الأنبياء ، والرسل ، باعتباره دعوة إلى الأنسنة ، والمحبة ، ومقاومة للظلم ، والظالمين ، ونبذ الكراهية ، والعصبيات ، فاتجه المسيحيون العرب يبحثون عن مريم ، والمسيح ، في القرآن الكريم ، بينما العرب المسلمون يتلمسون الدعوة إلى نبوة محمد بن عبد الله في نبؤة المسيح بن مريم ، ودعوته إلى المحبة ، ثم ، وبالعودةً إلى إبراهيم الخليل الذي حطمّ أصنام قومه عابراً أرض الوطن مقاوماً للظلم ، والظالمين ، من نمرود العراق ، إلى فرعون مصر ، إلى فلسطين ، ومكة ، بانياً للبيت العتيق ، وانطلاقاً إلى استعادة مركزية الرسالة التي حملها العرب حواريين مسيحيين ، ودعاة مسلمين ، إلى جميع أرجاء هذا العالم عن طريق استعادة الحوار بين الطوائف المسيحية ، نسطورية ، وكلدانية ، ويعاقبة ، وآشورية ، وقبطية ، وسريانية ، وآرمية ، ومورانية ، وأرثوزكسية ، وكاثوليكية ، وإلى آخرها .. باتجاه بناء كنيسة عربية مركزية ..تشّع سماحة ، ومحبة ، وأنسنة ، وعدالة ، ومساواة على البشرية جمعاء ، لتصحيح المعادلة المقلوبة ، بحيث تكون الكنيسة العربية ، كنيسة مركزية لكنائس الشرق والغرب ، وليس العكس .. وكذلك الأمر بين المذاهب الإسلامية على تعددها باتجاه استعادة جوهر الدعوة الإسلامية المتمثل في التوحيد ، ونبذ التفرقة ، والعنصرية ، والعصبية ، والتكفيّر ، وبناء جامع عربي مركزي يشع عدالة ، وأنسنة ، وتسامح ، على البشرية جمعاء ، فأصحاب الرسول هم آل بيته ، وآل بيته هم أصحابه ، ودعاة الفتن لا ينتمون إلى هؤلاء ، ولا إلى أولئك ..

إن استعادة العرب لهذا الدور المركزي ، ليس استعلاء ، أو امتيازًا ، وإنما استعادة لدور إنساني ، لحق به الكثير من التشويه ، وارتكبت باسمه جرائم هو براء منها ، فالمسيحية التي حملها الحواريون العرب إلى الغرب ، براء من الحروب الصليبية ، والاستعمارية ، ومحاكم التفتيش ، وعمليات النهب ، والاحتكار ، والهيمنة ، والقتل العنصري ، والفتك النووي ، واستغلال الإنسان ، للإنسان .. والإسلام الذي حمله الدعاة العرب إلى المشرق ، بريء من جرائم التتار ، والصفويين ، والمغول ، وبريء من ممارسات نظم الطغاة ، والمستبدين ، وناشري الفتن المذهبية ، والعائلية ، والقبلية ، والعنصرية .. سواء في الوطن العربي ، أو في أي مكان من هذا العالم .. وكذلك فإن موسى ، وألواحه الأثني عشر ، بريء من ممارسات الحركة الصهيونية العنصرية ، ومن جميع الارتكابات الوحشية …

بذلك ، فإن استعادة الأمة العربية ، بتكوينها الحضاري ، لدورها المركزي ، ليس مطلباً قومياً عربياً ، وإنما هو مطلب إنساني شامل ، لوضع الأمور في نصابها الصحيح …!

(4 )

هكذا كان المشهد في تلك الأيام من عام 1963 لم تكن الأمة العربية قد استعادت دورها ، لكنها كانت ساعية إلى ذلك ، لم تكن قد تجاوزت محنتها ، لكنها كانت قد بدأت تحاول ، لم تكن قد خرجت من مستنقع الفتن ، والتخلف ، لكنهّا كانت قد بدأت تتلمّس الطريق إلى النهوض ، والتنوير .. ، لم تكن الأمة قد أكملت نسج نسيجها الاجتماعي ، لكنها كانت قد بدأت .. ، لم تكن الأمة قد تجاوزت علاقات التخلف إلى المواطنة الحّقة ، لكنهّا كانت قد بدأت تضع الانتماءات الدينية ، والمذهبية ، والأثنية ، والقبلية ، والعائلية ، والطائفية ، في إطار الانتماء الوطني الجامع لذلك كله .. ثم ، بدأت فتاوي القتل ، والسحل ، والسبي ، والتكفير ، والاستئصال ، تنزوي ، وبات الحوار سيد الموقف ..

إنني لم أقصد من كل ما تقدم ، أن أوصّف ، أو أن أجمّل حالة كانت راهنة في تلك الأيام ، ولكنني أردت ، وأريد أن أقدّم مشهداً لواقع عربي ، كان يسمى الزمن الجميل ، يفتقده الجيل العربي الشاب ، المعني وحده ، بهذا الحديث ، ذلك أن الشارع العربي ، في ذلك الوقت ، كان يشّكل فعلاً قوة ضغط ، لصنع الأحداث ، وتوجيهها ، وقد قصدت أن أقول للجيل العربي الشاب ، إن الجماهير العربية لم تمتلك تلك المقدرة على أن تكون قوة ضغط هائلة ، من عمل سياسي آني ، وإنما كان ذلك بفعل تراكم بنيوي حضاري شامل ، شمل سائر مناحي الحياة العربية الاجتماعية ، والثقافية ، والأدبية ، والفنية ، من عبد الرحمن الكواكبي إلى محمد عبده ، وجمال الدين الأفغاني ، ومالك بن نبي ، وساطع الحصري ، وطه حسين ، وعباس محمود العقاد … إلى جمال الأتاسي وميشيل عفلق وزكي الأرسوزي ، وعبد الله الريماوي ، ونديم البيطار ، وعصمت سيف الدولة ، ومن أحمد عرابي ، وعبد الله النديم ، إلى الشهداء على أعواد مشانق السفاح التركي في بيروت ، ودمشق ، إلى المقاومة للاستعمار الأوروبي ، إلى شهداء الجزائر المليون … ، ومن أحمد شوقي ، إلى القروي ، إلى حافظ إبراهيم ، إلى نزار قباني ، ومحمود درويش … ومن سيد درويش ، وبيرم التونسي ، إلى صالح عبد الحي ، إلى أم كلثوم ، وفيروز ، وعبد الوهاب ، وعبد الحليم ..ومن جواد علي ، إلى الحكم دروزة ، ومن … إلى … لقد كانت الأمة تتجه فعلاً ، لتكون أمة وسطاً ، أمة العدل ، والمساواة ، والحضارة ، والثقافة ، حتى بلباس المواطنين ، والمواطنات ، الوسط ، المعتدل ، حيث لا مغالاة بأي اتجاه ..

هكذا ، فإن عناصر النهوض لم تكن سياسية ، وإنما كانت شاملة شتى مجالات الحياة الاجتماعية ، والثقافية ، والفنية ، والأدبية ، والسياسية ، والفكرية ..، وبالتالي ، تأتي المقاومة المسلحة ، والنشاط السياسي ، تحصيل حاصل ، ضمن سلسلة من المقاومات في المجالات الأخرى التي تشدّ النسيج الوطني ، ليشكل المجتمع حاضنة متماسكة ، لمشروع النهوض ، والتنوير في الأمة .. وطالما أننا نوجه هذا الحديث إلى الجيل العربي الشاب ، فإن إرادتنا اتجهت ، ونحن نسّلم إليه ملفاتنا ، أن نضع خلاصة تجاربنا بين يديه ، فمشروع النهوض ، والتنوير في واقع معقدّ ، كالواقع العربي الراهن ، لا يصنعه النضال السياسي ، أو النضال المقاوم المسلح ، وحسب ، وإنما لابد أولاً من إحياء المجتمع عبر نهوض بنيوي شامل ، ليكون حاملاً للنضال السياسي ، والمقاوم ، وإلا قد تنقلب الأدوات السياسية ، والمقاومة ، إلى تعبير خطير عن قوى الانحطاط ، والتخلف .. فتتحّول إلى مقاومة ، وممانعة ، للنهوض ، والتنوير ، والتحرر ، عوضاً عن أن تكون هي أداته ….

(5 )

بهذا المعنى ، فإن ميثاق 17 نيسان ” أبريل ” 1963 كان حدثاً مفصلياً في التاريخ العربي ، بمعنى أن التوقيع عليه كان نجاحاً لقوى الضغط الجماهيرية العربية ، بينما النكوص عن تنفيذه ، يمكن التأريخ به ، لبواكير انحسار ، وتراجع المشروع النهضوي العربي التنويري ، التحرري .. عبر محطات : هزيمة حزيران 1967 ، ثم عبر كامب ديفيد إلى ” الكامبات ” المنتشرة بين المحيط ، والخليج ، فانفصال الإقليم الشمالي في 28 أيلول ” سبتمبر ” 1961 رغم خطورته كان حافزاً للإجابة على الأسئلة الصعبة : لماذا وقع الانفصال ..؟ .. أين الخطأ ..؟ .. ما هو الطريق الصحيح إلى الوحدة العربية ..؟ كيف نبني الجمهورية العربية المتحدة النموذج ..؟ .. كيف نبني التنظيم القومي .؟ وهكذا ، في أقل من سنتين على انفصال الأقليم الشمالي بدأ البحث عن صيغ تنظيمية ، وحركية جنينية .. ثم ، انقلاب في اليمن ، انقلاب في بغداد ، وآخر في دمشق ، الجماهير العربية في دمشق ، وبغداد ، والقاهرة تضغط باتجاه جمهورية عربية متحدة جديدة ، الجماهير العربية في اليمن والجزائر تنتظر الإنجاز ، لتنضم للمشروع التوحيدي ، الجماهير العربية في سائر أرجاء الوطن العربي تتحّفذ .. ولتأكيد مصداقية ذلك ، دعونا نقرأ الأحداث كما وقعت على أرض الواقع .. ففي صبيحة الثامن من آذار ” مارس ” 1963 أكد بيان قيادة الجيش السوري ، أن ” سورية العربية وشعبها لم يعترفوا أبداً بحدود بلدهم ، ولا يعترفون سوى بحدود الوطن العربي الكبير ، وحدّد البيان الأهداف الرئيسية :

* إعادة الجيش إلى الطريق الصحيح للعروبة .
* تحقيق الوحدة العربية بأقصى سرعة .
* وضع السلطة بين أيدي المدنيين .
* احترام الالتزامات الدولية ، ومبادئ باندونغ ، والحياد ، والتعاون مع جميع الدول .
* دعم ثورة اليمن .
* مباركة ثورة الشعب العراقي الشقيق .
* مد اليد نحو الأقطار العربية التحررية : العراق ، والجمهورية العربية المتحدة /مصر/ ، واليمن ، والجزائر ..

بعد أسبوع واحد في 14 آذار ” مارس ” 1963 بدأت المرحلة الأولى من المحادثات بين “الجمهورية العربية المتحدة” ، وسورية ، والعراق ، ضمت خمسة اجتماعات ، ودامت يومين ، حيث انتهت في 16 آذار ” مارس ” 1963 ولعله من المفيد أن نذكر أسماء الوفود فقد حضر عن الجمهورية العربية المتحدة : ( جمال عبد الناصر ، عبد اللطيف البغدادي ، عبد الحكيم عامر ، كمال الدين حسين ، علي صبري ، أمين هويدي ، عبد المجيد فريد ) ، وعن العراق : ( علي صالح السعدي ، مهدي عماش ، طالب شبيب ، عبد الرحمن البزاز ) ، وعن سورية : ( نهاد القاسم ، عبد الحليم سويدان ، عبد الكريم زهور ، راشد قطيني ، زياد الحريري ، فواز محارب ، فهد الشاعر ) .

عاد الوفدان السوري ، والعراقي إلى بغداد ، ودمشق في يوم 16 آذار ” مارس ” 1963 بعد صدور بيان يقول : أن المباحثات وصلت إلى مرحلة استوجبت عودة الوفدين السوري ، والعراقي إلى دمشق ، وبغداد ، على أن تعود الوفود إلى القاهرة بعد أيام قليلة .. لكن ما أن أعلن النبأ حتى ضغطت الجماهير العربية ، مرة أخرى ، فعاد الوفد السوري ، بعد يومين فقط إلى القاهرة ، أي ، في : 19 آذار ” مارس ” 1963، وقد ضم الوفد السوري ، هذه المرة : ( صلاح الدين البيطار ، لؤي الأتاسي ، فهد الشاعر ، ميشيل عفلق ) ، أما وفد الجمهورية العربية المتحدة ، فبقي على حاله في الجولة الأولى ، باستثناء أمين هويدي ، وعبد المجيد فريد ، الذين غابا عن الوفد ، وقد استمرت هذه الجولة من المباحثات يومين أيضاً : 19 و 20 آذار ” مارس ” ، صدر على أثرها بيان يقول : ( جرت المباحثات في جو من الصراحة التامة ن والنقد البّناء في ما يتعلق بالعلاقات بين الجمهورية العربية المتحدة ، وسورية أثناء وحدة 1958 .. والأخطاء التي ارتكبتها جميع الأطراف … واتفق الطرفان على ضرورة توحيد القوى الوحدوية الثورية في الجمهورية العربية المتحدة ، والعراق ، وسورية ، لتتحمل مسؤولية تكوين ، وقيادة وحدة ثورية …) .

فعادت قوة الضغط الجماهيرية العربية إلى الشوارع ، والساحات العامة ، رغم منع التظاهر ، تطالب ، باستئناف المباحثات ، وإنجاز إعلان الوحدة .. لكن المرحلة الثالثة ، من تلك المباحثات ، تأخرت هذه المرة ، فاستقال ستة من أعضاء القوى الوحدوية من الوزارة في دمشق ، وهم : نهاد القاسم ، وعبد الوهاب حومد من “الجبهة العربية المتحدة” ، وسامي صوفان ، وسامي الجندي من حركة الوحدويين الاشتراكيين ، وهاني الهندي ، وجهاد ضاحي من حركة القوميين العرب ، فتصاعدت المظاهرات الشعبية ، مما اضطر … إلى الإعلان عن استئناف مباحثات الوحدة جولتها الثالثة في القاهرة ، في السادس من نيسان ” ابريل ” 1963 أي بعد أسبوعين من انتهاء الجولة الثانية ، وقد تقرر تمثيل القوى الوحدوية حتى المستقيلة في وفد المباحثات فكانت تركيبة الوفود ، كما يلي هذه المرة : وفد الجمهورية العربية المتحدة على تركيبته في الجولة الأولى ، بعد أن انضم إليه ، كمال الدين رفعت .. أما وفد العراق فقد ضم : ( أحمد حسن البكر ، علي صالح السعدي ، صالح مهدي عماش ، طالب حسين شبيب ، وعبد الستار عبد اللطيف ، ومحمود خطاب ) ، بينما ضم الوفد السوري ، سبعة عشر عضواً ، هم ( لؤي الأتاسي ، صلاح الدي البيطار ، نهاد القاسم ، محمد الصوفي ، عبد الكريم زهور ، هاني الهندي ، سامي صوفان ،عبد الحليم سويدان ، شبلي العيسمي ، سامي الجندي ، راشد قطيني ، درويش الزوني ، غسان حداد ، كمال هلال ، فهد الشاعر ، محمد عمران ، فواز محارب ) .

كانت تلك المرحلة من المباحثات هي الأطول ، وقد تشعبّت مواضيعها ، بين الإيديولوجي ، والسياسي ، والدستوري ، واستمرت تسعة أيام ، عقدت خلالها ، عشر جلسات ، الأولى ، والثانية ، اقتصرت على وفد الجمهورية العربية المتحدة ، والوفد السوري ، فقط ، والجلسات الثمانية التالية ضمت الوفود الثلاثة : المتحدة ، وسورية ن والعراق ..

( 6 )

لن ندخل في تفاصيل تلك المحادثات ، سواء ما قالته عن نفسها ، أو ما قيل عنها ، فنحن لم نفتح تلك الصفحة من تاريخنا ، لخوض معارك دينكشوتية في الماضي ، الذي خرج من دائرة الصراع فيه ، أو عليه ، بخاصة ، وأن الغالبية العظمى ممّن اشتركوا في تلك المحادثات مباشرة ، أو كانوا صانعين للأحداث من وراء الستار ، صادقين ، أو مناورين ، بنوايا حسنة ، أو بنوايا مبّيته ، قد غادروا هذه الحياة الدنيا ، ولا يستحقون منا ، إلا طلب الرحمة ، والغفران لهم ، كما أننا لم نفتح تلك الصفحة إستثارة للندب ، واللطم ، والحسرة على ما فات … كالتساؤل المشروع : آه ، لو قامت تلك “الجمهورية العربية المتحدة” في حينه ؟ ، كيف كان المشهد العربي مناقض تماماً لما هو عليه الآن .. ، فقد كان المحيط هادراً ، بالفعل ، وكان الخليج ثائراً ، أيضاً ، وكان ما بينهما ، قد وصل درجة الغليان … وبالتالي فإن “الجمهورية العربية المتحدة” ، لو ، ولدت في تلك الحقبة لم ، ولن تبقى محاصرة بحدود سورية ، ومصر ، والعراق ، وإنما كانت قوى الضغط الجماهيرية العربية ، هادرة ، وثائرة إلى درجة المقدرة على إزالة حدود العار ، والتجزئة ، من الأرض العربية ، لكن هذا كله ، لا يجدي الحديث عنه ، الآن ، فالتاريخ لا يحتمل هذه العبارة ” لو ” ذلك أنها لحظة تاريخية يفتقدها من يغفل عنها ، أو يفتقد الأدوات المناسبة للتعامل معها ، أو يفتقد الرؤية التاريخية ، وينغمس في الحسابات الهامشية فيقتنصها الخصم ، وهذا ما جرى ، لا أكثر من ذلك ، ولا أقل .. وعلينا أن نتقبل ما آلت إليه الأمور ، وأن نتعامل مع الواقع الموضوعي الجديد ، لا بالرضوخ له ، ولكن بالإعداد لجولة قادمة ، بعد قراءة ما جرى ، قراءة صحيحة ، واستخلاص الدروس ، وتجاوز الأخطاء ، والخطايا .. وبالعودة إلى تلك المرحلة التاريخية التي رافقت محادثات الوحدة 1963 نسّجل الملاحظتين التاليتين :

الملاحظة الأولى : أن المتحاورين في المحادثات كانوا منظمين في أحزاب ، وحركات سياسية ، أو مسؤولين في سلطات الدول المتفاوضة .

الملاحظة الثانية: أن قوى الضغط الجماهيرية العربية التي أحاطت بتلك المحادثات ، وفرضتها / حتى أن ميثاق 17 نيسان ” أبريل ” تم صياغته تحت ضغطها / كانت في غالبيتها جماهير غير منظمة في حركات ، وأحزاب سياسية ، ولا علاقة لها بسلطات الدول ، وبالتالي ، فإن الجماهير كانت تشكل قوى ضغط ، وليست قوى قرار ، قوى القرار كانت في مكان آخر ، وبالتالي ، فإن أول الدروس المستخلصة ، للذين يتصدوّن لاستئناف مشروع النهوض ، والتنوير ، والتوحيد ، والتحرر ، هو إعداد العدة ، وتوفير السبل ، وامتلاك الخصائص ، وشد نسيج الحاضنة المجتمعية لمشروع النهوض والتنوير ، لتتحول تلك القوى الجماهيرية من قوى ضغط ، إلى قوى قرار ، تعرف كيف تصدره ، وكيف تمتلك أدوات تنفيذه .

( 7 )

مرة أخرى ، لن ندخل في تفاصيل محادثات الوحدة 1963 ، فمحاضر تلك المحادثات منشورة لمن يريد ، لكن لابد من الإشارة إلى أهمية تلك المحادثات ، ذلك أن غالبية القوى العربية المنظمة ، المعنية في قضية الوحدة العربية ، على ما بينها من تناقضات ، وصراعات كانت أطرافاً في تلك المحادثات ، بل أن تلك المحادثات أدت ، فيما أدت إليه ، إلى اصطفافات جديدة ، وانشقاقات ، وظهور حركات ، وتنظيمات جديدة ، فقد شارك في تلك المحادثات جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة في سورية ومصر 1958، ثم رئيس دولة الجمهورية العربية المتحدة في مصر فقط ، بعد الانفصال ، وهو في الوقت ذاته قائد معاك التحرر العربي ، وملهم شريحة واسعة من الجماهير العربية ، وكان عليه أن يواجه هذا التناقض في الموقعين ، يومياً ، وهو ، ما هو عليه من حيث جماهيريته العربية الواسعة التي وضعته في موقع القيادة ، وهي جماهير غير منظمة حزبياً ، وحركياً ، من جهة ، ولكنها ترتبط ارتباطاً ، يكاد يكون عضوياً ، بقيادة جمال عبد الناصر ، وتلك الجماهير ، هي العمود الفقري ، لقوة الضغط الجماهيرية العربية ، التي انتشرت في جميع أرجاء الوطن العربي ، من جهة أخرى …، كما اشترك في تلك المحادثات ، حزب البعث العربي الاشتراكي ، وهو من الناحية التنظيمية ، أول حزب قومي عربي – ولادة – تجاوزت خلاياه الحدود ، وشكل قيادة قومية من المفترض أن القيادات القطرية تأتمر ، بأمرها .. وساهم في سنوات تأسيسه الأولى في رفع شعار الوحدة العربية ، ومقارعة الأفكار الإقليمية ، وأخواتها .. ، ثم اشتركت في تلك المحادثات حركة القوميين العرب ، وهي حركة قومية عربية ، كانت تتخذ من قضية الوحدة العربية ، قضية محورية في نشاطها ، خاصة في سنوات تأسيسها الأولى ، ويمكن أن ينطبق عليها ما قلناه عن حزب البعث ، وقد أصابها ، ما أصابه ، بعد ذلك .. ثم اشتركت في تلك المحادثات ، “الجبهة العربية المتحدة” ، وهي أول حركة منظمّة ، تأسست في سورية ، لمقاومة انفصال 1961 ، هذا ، إضافة إلى حركة الوحدويين الاشتراكيين ، التي انشقت عن حزب البعث العربي الاشتراكي ، بعد انفصال 1961 … ، تلك … كانت القوى الممثلة داخل قاعة المباحثات ، وهي ، رغم أنها جميعاً قوى قومية وحدوية ترفع شعار الوحدة العربية ، فإن التناقضات بينها كانت شديدة ، وصلت إلى حد الصراع ، في أكثر الأحيان ، خاصة بعد ما حصل بين تلك القوى ، وداخلها ، إثر قيام الجمهورية العربية المتحدة 1958 ، وبالتالي ، فإن أغلب تلك القوى حضرت إلى قاعة المباحثات ، وهي محمّلة بإرث من الشكوك ، والمخاوف ، وبعضها يعلن ، خلاف ما يقصد ، وبعضها الآخر اضّطر للحضور تحت إصرار قوى الضغط الجماهيرية العربية ، بهدف امتصاص فورتها ، حتى تصاب بالإحباط ، ومن ثم ، لكل حادث حديث .. وبعضها الآخر ، كان له حساباته الخاصة … وإذا كان هذا هو المشهد داخل قاعة المباحثات ، فإن المشهد في الشارع العربي الذي كان قد فرض تلك المباحثات ، كان مختلفاً ، ذلك ، أن المطلب الوحيد للجماهير العربية ، كان هو إعلان قيام دولة الوحدة ، دون أية حسابات أخرى …

( 8 )

رغم ذلك فإن تلك المباحثات ، كانت في منتهى الأهمية ، ذلك أن تلك القوى بعد سنوات من التراشق بالاتهامات جلست وجهاً لوجه ، وطرحت كافة المسائل على بساط البحث ، فقد أتيح لتلك القوى للمرة الأولى أن تتحاور في المسائل الشائكة لقضية الوحدة العربية ، الأساليب ، والأدوات ، والتنظيم ، والأحزاب ، ونظام الحكم ، الوحدة ، أم الاتحاد ، أم الفيدرالية ، وكان يمكن لتلك الحوارات أن تذللّ الكثير من العقبات .. وقد تم بالفعل دراسة نظم الحكم ، والدساتير ، وتم التوصّل في النهاية إلى ما عرف بميثاق 17 نيسان ” ابريل ” 1963، حيث تمّ توقيعه من رؤساء الوفود الثلاثة : جمال عبد الناصر ، وأحمد حسن البكر ، ولؤي الأتاسي ، وأعضاء الوفود ، في تمام الساعة الواحدة صباحاً 17 نيسان “أبريل” 1963 … وعلى أثر انتهاء حفل التوقيع ، ألقى الرئيس جمال عبد الناصر كلمة قصيرة قال فيها : ” باسم الأمة العربية نطلب من العلي القدير ، أن يوفق هذه الوحدة ، ويباركها ، ويديمها ، ويقويّها ، ويعززّها ، لكي يفخر بها الشعب العربي ، ونطلب من الله أن تكون هذه الوحدة ، نواة وحدة بين جميع الدول العربية ، وأن يساعدنا في سبيل مصلحة الشعب العربي ..” ، لقد وقعّ جمال عبد الناصر ذلك الميثاق رغم تحفظاته عليه ، فقد قال عنه : ( نحن نعتقد أن الاتحاد اللي إحنا واصلين إليه في منتهى الضعف .. ليس وحدة اتحادية ، إنما دولة ائتلافية ، أضعف أنواع الدول ، بذلك حيكون البناء هش ، وفي رأيي أن هذا الاتحاد ضعيف ، ولا يتحّمل أبداً ) ، هذا ما كان قد قاله جمال عبد الناصر في ختام الجلسة التاسعة من المرحلة الثالثة للمباحثات ، ورغم كل ذلك فإن تلك الدولة الائتلافية الضعيفة تم وأدها ، والتهرب من تحقيقها … وهذا يقودنا للانتقال من الحديث عن ميثاق 17 نيسان ” أبريل ” 1963 إلى الدخول في متن ذلك الميثاق ، للبحث في مضامينه ، فدعونا نتركه يتحدث عن نفسه ..

( 9 )

سنحاول استخلاص المعايير الأساسية ، لذلك الميثاق ، فندخل إليه من مقدمته ، حيث جاء فيها : ( التقت في القاهرة الوفود الثلاثة الممثلة للجمهورية العربية المتحدة ، وسورية ، والعراق … فاجتمع الرأي على أن تقوم الوحدة بين الأقطار الثلاثة ، كما يريدها الشعب العربي على أسس الديمقراطية ، والاشتراكية ، وأن تكون وحدة حقيقية ، متينة ، تراعي الظروف القطرية ، لتحكم عرى الوحدة على أساس من الفهم الواقعي … فالوفود الثلاثة تعلن باسم الشعب العربي في مصر ، وسورية ، والعراق ، إرادة هذا الشعب في قيام الوحدة الاتحادية على الأسس التالية :

أولاً : في مجال العمل القومي : وضع مثاق للعمل القومي … ، حرية تكوين المنظمات الشعبية في الأقطار الثلاثة …. ، توحيد القيادات السياسية على المستوى الاتحادي ……

ثانياً : في بناء الدولة : توحيد الشخصية الدولية … ، والسياسة الخارجية للدولة الاتحادية … وتحقيق وحدة عسكرية … ، وتوحيد أجهزة التخطيط … والتعليم … والديمقراطية هي توكيد السيادة للشعب … ، ووضع السلطة كلها في يده … وتكريسها ، لتحقيق أهدافه .. إن الديمقراطية ، هي الحرية السياسية …، والاشتراكية ، هي الحرية الاجتماعية … ، وقد تم بعون الله ، وتوفيقه الاتفاق على المبادئ الرئيسية التالية :

1 – أن تقوم دولة اتحادية ، باسم ” الجمهورية العربية المتحدة ” على أساس الاتحاد الحر بين كل من مصر ، وسورية ، والعراق ، وتكون أسماء الأعضاء الدولة الاتحادية : ” القطر المصري ، والقطر السوري ، والقطر العراقي ” .

2 – أن يكون لكل جمهورية عربية مستقلة تؤمن بمبادئ الحرية ، والاشتراكية ، والوحدة ، الحق في أن تنضم إلى هذه الدولة ، بإرادة شعبية حرة ، ويتم الانضمام بعد موافقة السلطة الدستورية في الدولة الاتحادية .

3 – أن تكون السيادة الدولية الكاملة للدولة الاتحادية .

4 – أن تكون لمواطني الدولة الاتحادية جنسية واحدة ، هي الجنسية العربية ، يتمتع بها ، كل من يتمتع وقت قيام الدولة ، بجنسية الأقطار الأعضاء ، وتنظم أحكامها ، بقانون اتحادي .

5 – أن تكون السيادة ، في الدولة الاتحادية ، للشعب ، يمارسها طبقاً للدستور .

6 – أن يكون الإسلام دين الدولة ، واللغة العربية ، لغتها الرسمية .

7 – أن يكون علم الدولة ، علم الجمهورية العربية المتحدة الحالي ، وفيه ثلاثة نجوم ، بدلاً من نجمتين ، وتزاد نجمة كلما انضمت دولة إلى الدولة الاتحادية .

8 – أن تكون عاصمة الدولة ، القاهرة .

9 – أن تختص سلطات الدولة الاتحادية ، بالشؤون التالية : السياسة الخارجية ، والدفاع ، والأمن القومي ، والمالية ، والخزانة ، والاقتصاد ، والتخطيط ، والتنمية ، الإعلام ، والثقافة ، والتعليم ، والعدل ، وتنسيق القوانين ، والمواصلات الاتحادية ، والمشروعات المشتركة .

10 – تختص الأقطار بجميع السلطات التي لا تدخل في اختصاص الدولة الاتحادية ، أما المؤسسات الدستورية ، فهي :

1 – مجلس الأمة ، وهو أعلى هيئة ، لسلطة الدولة في الجمهورية العربية المتحدة ، ويمارس السلطة التشريعية ، ويتألف من : مجلس نواب ، الأعضاء فيه ، بنسبة عدد السكان في كل قطر ، ينتخب ، انتخاباً مباشراً ، بالاقتراع السري العام ، ومدة العضوية فيه 4 سنوات ، ومن مجلس الاتحاد : ويتكوّن من عدد متساو من الأعضاء ، في كل قطر .. وينتخب مجلس الأمة ، رئيس الجمهورية ونواب الرئيس ، بالطريقة التي يحددّها الدستور .. ، ودساتير الأقطار ، يجب ألا تتعارض مع دستور الاتحاد ..

2 – رئيس الجمهورية ، هو رئيس الدولة …وكل مواطن في الدولة ، تتوافر فيه الشروط لانتخابه في مجلس الأمة ، يجوز انتخابه رئيساً للجمهورية ، ومدة الرئاسة أربع سنوات ، وينتخب 3 نواب للرئيس ، واحد من كل قطر ، بنفس الطريقة التي ينتخب فيها رئيس الجمهورية ، وفي نفس الوقت ..كما يتكوّن مجلس الوزراء ، من رئيس مجلس الوزراء ، والوزراء وينظمّ الدستور ، والقوانين الاتحادية ، الأحكام الخاصة ، بالوزراء .

3 – السلطة القضائية : تكون للاتحاد ، محكمة عليا ، تسمى ” المحكمة الاتحادية العليا ” يختار مجلس الأمة أعضاءها .

أما على صعيد الأقطار ، فتضمن الميثاق ، أن يكون هناك رئيس لكل قطر ، ومجلس تشريعي ، ومجلس وزراء ، وقضاء .

أما ، في المرحلة الانتقالية ، فيستفتى على دستور الاتحاد ، وعلى رئيس الجمهورية ، في مدة أقصاها خمسة أشهر من تاريخ إعلان هذا البيان ، وتعتبر دولة الاتحاد ” الجمهورية العربية المتحدة ” ، قائمة دستورياً عند إعلان نتائج الاستفتاء ، وتستكمل المؤسسات الدستورية الاتحادية جميع عناصرها ، التي نص عليها الدستور في مدة أقصاها 20 شهراً ، من تاريخ إعلان الاستفتاء ..

هكذا نلاحظ ، ضعف البنيان الدستوري ، في الميثاق ، وكذلك طول مدة المرحلة الانتقالية ، مما يتيح التهرب من تنفيذه ، وهذا ما حصل بالفعل…

( 10 )

لقد كان الشعب العربي ، من المحيط إلى الخليج ، يتابع مباحثات الوحدة ، وعبّر في مظاهر متعددة عن الأمل في أن ترى ” الجمهورية العربية المتحدة ” الجديدة ، النور ، في 17 أيلول ” سبتمبر ” 1963 كما تم الاتفاق في “الميثاق” ، أي بعد خمسة أشهر من الإعلان ، لكن ، ما أن عادت الوفود من القاهرة ، حتى بدأت مظاهر النكوص ، بالظهور ، ولنتابع المشهد في الدول الثلاث ، التي كان من المفترض ، أن تكون ، أقطار الجمهورية العربية المتحدة :

أولاً : في سورية ، بدأ الصراع الداخلي يأخذ اتجاهاً خطيراً ، فبعد أيام ، فقط ، من توقيع الميثاق ، أي في 2 أيار ” مايو” 1963 تقدّم خمس وزراء ـ باستقالاتهم احتجاجاً على ما اعتبروه تلكؤاً في التوجه ، لتنفيذ ميثاق 17 نيسان ” أبريل ” ، وهم : نهاد القاسم ، وعبد الوهاب حومد ، وسامي صوفان ، وجهاد ضاحي ، وهاني الهندي ، ثم ، وعلى أثر ذلك ، ومن داخل المجلس الوطني لقيادة الثورة ، تقدم عضوان بارزان باستقالتيهما انضماماً للوزراء المستقيلين ، وهما اللواء محمد الصوفي وزير الدفاع ، وراشد قطيني معاون رئيس الأركان ، ثم تتابعت عمليات عزل الضباط الوحدويين ، المقدم جميل فياض ، والمقدم ممدوح حبّال ، والعقيد مأمون تحسين ، وامتدت الاستقالات إلى صفوف حزب البعث ذاته ، فاستقال ثلاثة وزراء بارزين هم : عبد الكريم زهور ، وجمال الأتاسي ، وسامي الدروبي ، فبعد مناقشة قصيرة في المجلس الوطني لقيادة الثورة ، قال عبد الكريم زهور : اعتقد ، بأننا نتقدم بسرعة نحو الانفصال ، واستقال من حزب البعث ، وكذلك فعل جمال الأتاسي ، حيث ، وبعد استقالته من الوزارة ، قدّم استقالته من حزب البعث ، وأسّس الاتحاد الاشتراكي العربي في سورية ، ثم ، تمّ عزل ضباط زياد الحريري ، ومن ثم ، إبعاده عن البلاد … وانحدرت الأوضاع إلى أحداث يوم 18 تموز ” يوليو ” الدامي ، وتلتها الإعدامات الشهيرة ، والتسريحات الجماعية لضباط الجيش ، فأعلن جمال عبد الناصر في 22 تموز ” يوليو ” 1963 إلغاء ميثاق 17 نيسان ” ابريل ” ، وعلى الفور أعلن لؤي الأتاسي ، استقالته من رئاسة المجلس الوطني لقيادة الثورة ، ثم تطورت الأحداث ، بالاتجاه المعروف …

ثانياً– في العراق : لم تختلف الصورة كثيراً ، فقد احتدم الصراع بين علي صالح السعدي من جهة ، وطالب شبيب ، وهاشم جواد ، من جهة أخرى ، فتمّ عزل السعدي عن وزارة الداخلية ، وأعيد انتخاب القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي في العراق من السادة : أحمد حسن البكر ، وطاهر يحيى ، وحازم جواد ، وطالب حسين شبيب ، وعبد الستار عبد اللطيف ، ومحمد مهداوي ، وسالم سلطان ، وعلي عرين ، وكريم شنتاق ، وعبد الستار دوري ، وطارق عزيز ، وطارق بزاز ، وحسن حاج وادي ، وصالح مهدي عماش ، وفؤاد شاكر مصطفى ، ومنذروندو ، وتم طرد علي صالح السعدي ، وأربعة آخرين من قيادة الحزب على متن طائرة خاصة إلى مدريد ، لكن “الحرس الوطني” هاجم المقر العام ، ودارت حرب شوارع ، فتدّخلت القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي ، لحل الأزمة ، عبر وفد ضم ثلاثة سوريين ، وثلاثة عراقيين ، هم : ميشيل عفلق ، وأمين الحافظ ، وصلاح جديد ، وأحمد حسن البكر ، وصالح مهدي عماش ، وعبد الستار عبد اللطيف ، وأعلن الوفد عدم شرعية المؤتمر القطري ، وتم حل القيادة القطرية التي انتخبها ، وأعلن الوفد عن تسفير طالب شبيب ، وهاشم جواد ، وخمسة آخرين من القيادة ، بطائرة عسكرية إلى بيروت …، وتطورت الأمور بعد ذلك إلى أن قام عبد السلام عارف بانقلابه الشهير في 18 تشرين الثاني “نوفمبر” 1963 ، وتم حلّ الحرس الوطني ، واستلم عارف الصلاحيات كاملة في البلاد ، وأحدث منصب نائب رئيس للجمهورية كي يعيّن فيه ، أحمد حسن البكر ، إضافة إلى تعيين طاهر يحيى رئيساً للوزراء … ثم تطورت الأمور بالاتجاهات المعروفة … وهكذا تحولت الوحدة السورية – العراقية ، التي كان من المؤمل قيامها بديلاً عن ميثاق 17 نيسان “أبريل” إلى حبر على ورق أيضاً ….

ثالثاً – مصر “الجمهورية العربية المتحدة” ، رغم كل ما جرى ، تمسّكت القاهرة ، بالجمهورية العربية المتحدة ، أسماً ، وعلماً ، كتعبير عن الإصرار على الوحدة العربية ، لكن القاهرة ، كانت قد أصبحت في حالة حصار ، بعد انفراط ، ما كان يعرف ، في ذلك الوقت ، بجبهة الدول العربية التقدمية ، خاصة بعد الانقلاب على أحمد بن بله ، في الجزائر ، وبعد اشتداد الهجمة على الثورة في اليمن ، وعلى الجيش المصري هناك ، بخاصة ، مما اضطر القاهرة ، لإرسال المزيد من القوات المصرية إلى اليمن ، لمواجهة الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن ، ولمواجهة تسلل المرتزقة من الشمال ، فاستغلت “إسرائيل” الفرصة ، وشنت عدوان 1967 ، فكانت الهزيمة ، التي مازالت الأمة تحت استحقاقاتها حتى الآن ، تلاها غياب ، أو تغييّب جمال عبد الناصر ، مما أتاح للمدعو أنور السادات الإنقضاض على “الجمهورية العربية المتحدة” ، أسماً ، وعلماً ، ورمزاً ، وغاية ، تحت ادعاء إقامة “اتحاد الجمهوريات العربية” بين : مصر ، وليبيا ، وسورية ، فأجري الاستفتاء في الأول من أيلول “سبتمبر” 1971 ولم تكن الغاية منه الاستفتاء على الاتحاد ، وإنما كانت الغاية منه ، التخلص من أسم “الجمهورية العربية المتحدة” ، التي كان علمها يرفرف في سماء مصر ، بدليل ، أن ذلك الاتحاد ، بقي حبراً على ورق ، وتحولت مشاريع الوحدة العربية بعد ذلك إلى مشاريع كوميدية … وهكذا انحسر مشروع النهوض ، والتنوير ، والتحرر ، والتقدم العربي ، ودخلت الأمة العربية في ظلام نفق هذا الليل الطويل ، الذي يتفرعّن فيه الطغاة ، ويطغى الفساد ، والتخلف ، والتبعية ، والاستلاب ، والنهب …. ، لكنها ، محنة ، وستمضي … يقولون ، أن الظلام يزداد حلكة قبيل انبلاج الفجر ، وهو الآن في ذروة حلكته ، وبالتالي ، سينبلج الفجر قريباً ، بجمهورية عربية متحدة سيعرف هذا الجيل العربي الشاب ، والأجيال العربية القادمة ، كيف يشيدون بنيانها ، صرحاً للحرية ، والعدالة ، والمساواة ، والديمقراطية ، والنماء ، لتنعم الأمة العربية ، بما تملك ، وتنتج ، فتتقدّم لتأخذ مكانتها التي تستحق في مسيرة الأنسنة ، ونبذ التوحش ، والاستغلال ، والطغيان … والسؤال الذي تطرحه التجارب المرة هو : كيف تتحول الجماهير العربية إلى قوة اعتبارية …؟ ، ثم ، كيف تتحول تلك الجماهير العربية إلى قوة ضغط … ؟ ، ثم كيف تتحول الجماهير العربية إلى قوة قرار ، وتنفيذ …؟ ، أسئلة برسم الجيل العربي الشاب ، وعلى الإجابة ، وبناء عليها ، يتحدد موعد ولادة “الجمهورية العربية المتحدة ” بين المحيط ، الذي سيكون هادراً ، والخليج ، الذي سيكون ثائراً ، وما بينهما الذي سيكون شامخاً ….!

أضف تعليق